الأربعاء، 15 مارس 2017

أفريقيا تحت أضواء جديدة

أركامانى مجلة الآثار والأنثروبولوجيا الســـودانية
عرض الكتب والدراسات





أفريقيا تحت أضواء جديدة
بازل دافيدسون 
مقدمة للترجمة العربية للكتاب التى قام بها للعربية الأستاذ جمال محمد أحمد
الذى نشرته دار الثقافة في بيروت 1961





أفريقيا السوداء، فالحديث كله هنا وفي الكتاب يدور حول أفريقيا جنوب الصحراء، كما كانوا يعبرون، تمييزاً لها عن أفريقيا العربية في الشمال.

العرب في شرق أفريقيا
لو لم تكن لهذا الكتاب حسنة غير إبراز دور العرب في اكتشاف أفريقيا وحياتها، لاستحق عناية القارئ العربي، ولأستحق عناء تعريبه، ذلك أننا لا نعرف إلا القليل من هذا الجانب المضئ المشرق من حيوية العرب على عهودهم الزهر. لهم في أفريقيا تاريخ يمتد لصبا الزمان أول الدهر؛ أشار إليه الرحالة الإغريقي مؤلف كتاب "الكشاف البحري" في القرن الأول الميلادي، حين كتب يعجب لكثرة السفن العربية على الساحل الشرقي للقارة، ويشيد بقدرة العرب على العيش الجميل مع الأهلين حتى في ذلك الزمان البعيد؛ يتزاوجون فتختلط الأنساب، ولا يجد الخصام سبيلاً بينهم وبين القوم؛ يعرفون لغاتهم ويتطلع هؤلاء للتعرف على لغتهم التى كانت تفتح لهم آفاق التجارة والثقافة؛ ويمارسون ما لا يأبون من عادات القبائل؛ تجئ سفنهم من الجزيرة العربية ومن كل صوب في المحيط الهندي بالخناجر والرماح والزجاج، وتقلع من لدنهم تحمل العاج وقرون الخرتيت وجلود السلحفاة وزيت النارجيل. رأى الرحالة الإغريقي في القرن الأول الميلادي عيشاً رافهاً آمناً بعضه من بعض، ولم يجد الرؤساء في الإقليم الأفريقي حرجاً من التضامن مع كل ملك يحكم الجزيرة العربية، ولم يحسوا في هذا التضامن غير المتكافئ تبعية يكرهونها أو شعور بتحقير. عرف التجار من جنوب الجزيرة إذن ساحل القارة وبضعاً طيباً من داخلها منذ كانت تجارة وتجارة في الإقليمين، كما عرف رحالة القرون الوسطى أشطاراً من غرب أفريقيا ووسطها معرفة هي اليوم نقطة البدء في تاريخ القارة على عهد الوسيط، وقد تصدى دافيدسون لهذا الجانب على نحو جدير بقراء العرب أن يتدبروه، وان يتابعوا الذى لم يجد له المؤلف فسحة في فصوله.

ويصمت التاريخ كله لا العربي وحده، بعد رحلة صاحب "الكشاف البحري" وتمضي الحياة بالعرب والأفريقيين عن أعين الراصدين، لا يغير نموذج التجارة والحياة فيها شئ، حتى يتدفق على الساحل المهاجرون العرب بعد وفاة الرسول حين تضطرب الحال بينهم في بلادهم، فلا يقدر عليها إلا المحاربون من أجل شئ عزيز قريب إلى نفوسهم. يفد طلاب السلامة هؤلاء والأمن والرخاء، ويجدون لمواهبهم التجارية والثقافية مجالاً أحدث أثره لا على الساحل وحده بل على الحياة في البلاد العربية : تزخر مثلاً أسواقهم في القرن الثامن بمصنوعات الحديد من زمبابوي في أعماق القارة الأفريقية، ترد على الدواب عبر ذلك القفر في روديسيا الحديثة لتحملها مراكب العرب إلى كل مكان في بلادهم البعيدة، ويدل على هذا النشاط الجديد بين القارة والجزيرة كثرة الزنوج في بلاد العروبة : كان "لا يفقد غائبهم" في الحروب أيام ثورتهم على دهاقينهم في فرات البصرة، "كلما قتل منهم قتيل سد مسده غيره فلا يظهر أثر فقده" كما يقول ابن أبي الحديد، في حديثه عن ثورة الزنوج. وتكاثر العرب على الساحل فامتد سلطانهم في القرن العاشر من القرن الأفريقي قبالة جنوب الجزيرة حتى أسفالا قرب واق الواق الشهيرة شهرة الأساطير، ولا غرابة، فقد كانت قصص ألف ليلة وليلة تتجمع في ذلك العهد، وبعضها استوحى ولا شك من رحلات العرب الجريئة في هذا الإقليم، ويقودك الأهلون حتى يومنا هذا إلى صخرة في مالندي يؤمنون بأنها صخرة السندباد. وفي القرن العاشر هذا الذى نتحدث عنه وصل على بن الحسين جزيرة كلوا قرب دار السلام الحديثة، وظل خلفاؤه على عرشها حتى القرن السادس عشر حين تغلب عليهم البرتغاليون.

وتدخل القارة هنا التاريخ مرة أخرى بعد مؤلف "الكشاف البحري" على يد الإدريسي في القرن السادس عشر؛ رسم هذا الجغرافي الجليل، أول خريطة لأفريقيا عرفها التجار والملوك في القارة الأوربية؛ لم ير هؤلاء بطليموس في القرن الثالث، وكانت هذه أدق وأشمل، تعززها كتابات عن تعدين الذهب والحديد في سفالا قرب واق الواق، وفي مدن الداخل؛ ولم يكن عسيراً على الإدريسي أن يجمع ما جمع من حقائق ألهبت خيال قارئيه، فقد كان الساحل كله آنذاك منازل يقطنها العرب مثل جيدي التى اشتهرت في نهاية القرن الذى كان يكتب فيه الإدريسي، ولم تبق نقطة على الساحل لا تنتمي للعرب، حين جاءت موجة من مهاجريهم في القرن الثالث عشر، وقد اجتاح المغول دار الإسلام حتى الفرات؛ لحق هؤلاء بأهليهم على الشاطئ وجاءوا بدم جديد دافق ظهرت آثاره في عماراتهم الزاهرة وأسواقهم النافقة، التى وصفها ابن بطوطة حين جاء الإقليم في الربع الأول من القرن الرابع عشر وكانت حيوية عصية عجزت هجمات البرتغاليين سنة 1498 عن أن تفل من حديدها؛ مضوا يردون هجمات الواغلين بيد ويبنون باليد الأخرى، كما ترى اليوم من بقاياهم في خليفي وكلوا. ظلوا على هذا الحال حتى سنة 1521 حين استحال التعمير وقد قويت يد البرتغال ووهنت يدهم، وما كانت لتهن لولا تفوق هؤلاء في السلاح، وتنازع الأمر بين قادة العرب.

ألقت مراكب البرتغاليين مراسيها على الساحل في السابع من ابريل سنة 1498، ولقوا من العرب وأحلافهم الأهلين كل عون وود الى أن بان لهؤلاء ما يضمر الواغلون، أدركوا أنهم يريدون الانقضاض على تجارتهم، فتحول الود عداءً مسلحاً بعد عشرين عاماً من العيش الخادع، وتمكن البرتغاليون من الساحل مائتي عام. آلت إليهم فيها خيراته وخيرات الداخل، وان لم يسكن العرب على هزيمتهم؛ كان العمانيون من حين يسعون لاسترداد ما كان لهم، حتى لنجحوا مرة في حصار قلعة ممبسا الضخمة، التى تحتل قلب المدينة حتى يومنا الراهن. ومضت ثلاثة وثلاثون شهراً على هذه الحال بين سنتي 1696 و 1698، ولولا خلافهم لاستعادوا أرضهم، ولم يصبروا حتى منتصف القرن الثامن عشر حين استطاعوا بهجمة عازمة قادرة على إخراج البرتغاليين من الساحل، وان لم يستطيعوا رأب صدعهم إلا بعد خمسين عاماً من هذا التاريخ. كثر المتطلعون للسلطات والقيادة بعد أن رحل العدو، وكثرت حروبهم الصغيرة حتى جاء عمان السيد سعيد سنة 1804، وقضى على الدعاة والطامحين بشدة مراسه وبعون أحلافه من الإنجليز، وفي سنة 1832 نقل عرشه لزنجبار حيث يحكم أبناؤه اليوم في ظل الحليف الذى ملك الأمر كله من بعد، وبالسيد سعيد يبدأ عهد جديد في اكتشاف القارة، إذ تيسر بعده أن يسافر الأوربيون للداخل يحرسهم أمنه الذى نشره في الإقليم من جزيرته القريبة.

هذه قصة من أروع الصفحات في التاريخ الأفريقي كله أو التاريخ العربي في أفريقيا، وليس بعيداً أن يتفرغ لها يوماً من الأيام، طلاب هذا أو ذاك من شباب العرب، فيتقنوا آثار هذا الأندلس الأفريقي قبل أن تعفي عليه رمال الأيام أو تدخل هذه الكتب والمذكرات والرسائل العديدة التى كتبها الرحالة والمبشرون والقناصل الأوربيون ضمير العالم كله على أنها وحدها هي سجل الحوادث هناك، وما هي- حتماً- كذلك. كتبت كلها بأعينهم، وكان صعباً عليها أن ترى حسنة في العرب، فقد التقوا هناك في زمان جاهر فيه كل جانب أخاه بالعداء، بعد أن عجزت المخاتلة بينهما والمداورة أن تحفظ السلم؛ وما ندري أية جهة سيتجه هذا الشباب ليكتب هذا التاريخ بعين العرب أيضاً، فقد كانت الأندلس الأفريقية- فيما نعرف الآن- أمية لا تكتب؛ عاش فيها رجال أخطروا أنفسهم أخطارا، تلوح صورهم خلال كتابات الأوربيين زاهية مليئة بالألوان تغريك بالبحث؛ أفراد من الناس اقتحموا هذه المجاهل "من يوغندا في الشمال الى نياسا في الجنوب" وأذاعوا الذعر "من نياسا في الجنوب إلى سواكن في الشمال" لا تسندهم حكومة ولا تعضدهم جماعة : سعيد بن جمعة، سالم محمود بن خميس بن بهلول وعشرات غيرهم من أهل التجارة والسياسة في إقليم يوغندا الحديث، ومحط بن خلفان، وبوانا عمر، والشريف ماجد وعشرات غيرهم من أهل الحذق والمال في نياسا الحديثة وتنجانيقا، وسليمان بن الزبير رسول سلطان برغاش في زنجبار الذى كان يقطع القارة من شرقها لغربها للتجارة حيناً وللنفوذ أحياناً أخر؛ وسيدهم كلهم الذى أذاق ليوبولد ملك البلجيك، مر العذاب، طبوطب كما تسميه مصادر الفرنجة، الرجل الداهية البصير بكل شبر في الجبال والغاب والبحيرات، تلوح لك منه صورة مثيرة غريبة كأنها ابداع فنان، تود لو لمستها بيدك لتعرف، ولكنها تتأرجح عن بعد كالسراب وتخطئها الحواس. ظل من الظلال خلال الكتب، كان يعرف مواهبه ويدرك وهو في غياهبه تلك مصادر القوة انى تنبع وأي مسار تسير توالت عليه الفتوق آخريات أيامه في الكونغو الأعلى ونكأه ما كان بينه وبين تجار العرب من عصبية هناك، وخشى أن ينتفخ ليوبولد بهذا الخلاف فخرج يقصد زنجبار- حيث أهله وماله، ولقيه على الطريق عند بحيرة تنجانيقا سنة 1890 مبعوث جمعية من جماعات التبشير، وما نظن إلا أنه لمح الشماتة في عينيه، قال وهو يحاوره : "الرجل الأبيض أكثر قوة وعدة مني. سيبتلع كل الذى اقتنيت كما ابتلعت ما ملك المجوس في الإقليم. أرى سحباً في الجو قاتمة، والرعد يقترب. أنا ذاهب". وبعد سنتين اثنتين من هذا استعرت الحرب بين العرب والأوربيين في الكونغو وانتهى أمرهم هناك بعد. رجل طيف ليت أحداً جمع عظامه ودمه وروحه، إذن لجمع تاريخ إقليم، في حياة رجل.

كان للعرب إيراد الأمور وإصدارها في الداخل البعيد من الساحل حين جاءت طوائف المبشرين حداة النفوذ الأوربي، حملة أعلام الحكومات والشركات، ولكنهم لم ينفسوا عليهم شيئاً بادئ الأمر؛ فقد كانت تجارة الرقيق والعاج في يدهم لا يشركهم فيها أحد، وكان هؤلاء يسكنون إليهم، فقد كانوا أهل بشر وكرم ومزاج للعيش الجميع، لا يألفه الأهلون الأصليون آنذاك، ولكن الود لم يدم طويلاً بين الطرفين، واصرخ هؤلاء قومهم وراء البحار، واحتدم الصراع حيناً بالسلاح وحيناً بالمماكرة، وأوضح سجل الحوادث الذى تركه الأوربيون أنفسهم ان الغلبة في البدء كانت للعرب، فقد كانت المعركة معركة حذق ودراية ومداجاة، وكان هؤلاء قطان البلاد، أحلاف الزعامات والقبائل، يعرفون كيف يعمون أمرهم على العدو، حتى ليضيق هذا ويغتاظ حين يفسد أمره وتعلو يد العرب.. تساءل القنصل البريطاني في يوغندا عشية الانقلاب العربي في أكتوبر 1888 في بلاط الملك، وكان يحسب انه حليفه ضد العرب : "هذه حوادث منكرة، علينا ان نقف عندها ونسائل أنفسنا أي قانون سيسود أواسط أفريقيا : الأوربي أم العربي؟" وكانت غضبة لها ما بعدها فيما نعرف. عوقب العرب أشد العقوبة، أما سيدهم في لندن، فأسلم نفسه لغيظ لا يعين على الإبصار : كانت جمعيات المبشرين من كاثوليك وبروتستانت تخوض حرباً عنيدة مع العرب- أسميت من بعد "حرب العرب" في نياسا، وكان أنصارهم يلحون على الحكومة القائمة يومها في لندن أن تعززهم بالسلاح والرجال، ولم تكن هي في وضع يمكنها من التجاوب مع المعارضة، فقد كانت مرارة الخصام على إنقاذ غردون في الخرطوم عالقة بكل لسان. قال سالسبري يسوق المعاذير كيلا يفعل : "إننا لن نحسن إلى تلك الجهود العظيمة في تبشير هذه البلاد وتمدينها إن نحن اتخذناها سبباً من أسباب الحرب مع قاذورات البشرية التى تنتشر في ذلك الإقليم العريض الطويل الذى يحكمه أساسا عرب عالجنا نماذج منهم في السودان، يجمعون للقسوة التى لا ترحم عصبية دينية لا تبصر. انه جيش فظيع من الخبث لن يقضي عليه سوى انتشار المسيحية وذيوع المدنية بينهم بالتدريج" [6 يوليو 1888].

وكان غير عادل في الذى قال، ذلك لأن العرب، وان كان من حق التاريخ أن يصم تجارتهم للرقيق أقبح الوصم، تركوا حيث حلوا أسواقاً نافقة، وطرائق للتجارة مطروقة، ونواة للإدارة والحكم، وسبلاً للزرع والحصد، بنى عليها الأوربيون حين تسلموا الأمر من بعد. ما عدل حين أسماهم "قاذورات البشرية" فقد أثبت البحث الحديث أن "العرب تركوا أثراً حقيقياً على وجه تلكم الأرض : أزالوا فدادين من الغاب وزرعوا فوقها محاصيل متنوعة" الى آخر ما يقول الأب سلمانز في كتابه عن "المسألة العربية والكنغو" حين يتحدث عن الآثار الاقتصادية التى خلفها العرب في الإقليم وعن أثر "العنصر العربي" في تقسيم القارة بين القوى الأوربية، ولم تكن تجارتهم للرقيق، وقد اتخذت تكأة لرميهم بكل منقصة بأبشع من تجارة الأوربيين فيها كما يبين لنا كتابنا هذا الذى بين يديك بالأرقام ولعل من محامد العرب في هذا الباب، أن العلائق بينهم وبين رقيقهم كانت إنسانية الى حد بعيد. كتب ديوارت باربوسا سنة 1815، وتجارة الرقيق لا تجارة غيرها آنذاك : "حال الرقيق في ممبسا تدل على ما لأسيادهم العرب هنالك من إنسانية، يعجز الواحد أحياناً عن أن يميزهم عن أسيادهم، إذ يبيح هؤلاء لهم أن يقلدوهم في اللباس وفي غيره من شئون العيش" ولك أن تقابل هذا بأية صفحة أردت من صفحات قصة جوزف كونراد "قلب الظلام" لترى العلائق بين المخاطرين من أوربا وبين عمالهم من الأفريقيين، لا قبل أربعمائة عام، بل في مطالع هذا القرن، والعصبية الدينية التى تحدث عنها سالسبري في خطابه الحانق المغتاظ لعبت دوراً ولا ريب، لكنك إن قرأت السجل بإنعام نظر وحيدة، رأيت أن أوربا هي التى كانت تقذف بالدين في الميدان، لا العرب : أراد كارل بيتر وصحابه من رواد الاستعمار الألماني في تنجانيقا سنة 1885 أن يكون التبشير "أداة مهمة من أدوات الاستعمار- الأوربي المسلح" فيما يقول رونالد أوليفر صاحب "العنصر التبشيري في شرق أفريقيا" وكانوا يحثون حكوماتهم على "أن تمتزج الحركة التبشيرية بالحركة التوسعية في ألمانيا"- أمور يجزم المؤرخون أنها لعبت دوراً في تحول العرب عن التعاون مع الأوربيين، وكانوا لا يكرهون التعامل التجاري معهم بادئ الأمر، يشترون سلاحهم ويبيعون لهم العاج، وما كان ممكناً بعد هذا أن يقوم التعاون بين الفريقين، كانت "كل محطة تبشير مقالة في الاستعمار" والاستعمار معنى من معاني الاحتكار كما كتب رسول الحكومة البريطانية في نيسالاند عام 1890 ولن تجد شيئاً من هذا الانتفاع بالدين في السجل العربي في أواسط أفريقيا، ولعلهم أعجز من أن ينظموا حركة تبشيرية كالتي نظم الأوربيون.

وكان صراعاً غير متكافئ على أية حال، كانت أوربا، وقد وطدت الثورة الصناعية أقدامها فيها، واثقة من نفسها معتدية، يؤمن غلاة الناس فيها برسالة قارتهم السعيدة، ويؤمن أكثر الناس فيها بالبحث عن أسواق لبضائعها، وما تريد من خامات لها عبر البحار بأي سبيل، يريدون ليعوضوا بأفريقيا عن أمريكا وقد خرجت من النطاق البريطاني سنة 1783، والثورة الصناعية بنجاحها تغير من كل شئ في حياة الأوربيين المادية منها والنفسية وتوحي إليها بأنها أفضل الناس وأجدرهم بالقيادة، وأحقهم بما تنتج الأرض العريقة، ولم تكن صدفة محضاً أن تتكون الجمعية الأفريقية في بريطانيا بعد خمس سنوات فحسب من هذا التاريخ، وهى الجمعية التى عملت على اكتشاف القارة الأفريقية في الداخل أكثر مما فعلت جمعية أخرى أو شخص بذاته، وتدفق القناصل إلى زنجبار وقد اتصلت السبل وأمنت الطرق- كما قلنا- على عهد سلطانها المسقطي السيد سعيد، جاءوا : الولايات المتحدة سنة 1837، وبريطانيا سنة 1841، وفرنسا سنة 1944- يتنسمون الأخبار، ويتطلعون للداخل يريدون لسلطانهم أن يمتد فيحوز وجدان القارة من ناحية وثروتها من ناحية، وكان العرب قد سبقوهم لهذين، فيما أخبرهم لفنجستون في رسائله : كان يجد آثارهم أينما حل. حسب نفسه سار طريقاً ما سارها أحد قبله حين عبر القارة من بتشوانا لاند خلال صحراء كلهاري وحول بحيرة نقامي وفوق نهر زمبيزي، فأنجولا وعبر القارة مرة أخرى إلى إقليمين عند ساحل موزمبيق، بعد سبع سنوات من الإقدام انتهت سنة 1856، ثم عرف أن عربياً اسمه سعيد بن حبيب بن سليم اللفيفي، طوف ما طوف هو قبله بشهور قليلة، لا تسنده صحيفة ولا جماعة ولا تعني بأمره دولة كما كانت الحال مع لفنجستون وغيره من الأرواح الجريئة التى كشفت القناع عن القارة لأوربا المعتدية الجديدة المصنعة. وكان هذا شبيهاً بحال العرب في صراعهم للبقاء آخر الأمر. تأتيهم أخبار الجيوش الخديوية في طريقها لأواسط القارة صوب يوغندا، فيتلهفون، ينصتون لعلهم يجدون حليفاً يعين، وتأتيهم أخبار غزوات الإمام المهدي الموفقة، فينصتون مرة أخرى لعل علماً من أعلام العرب، يأتي لنجدتهم وهم أفراد مبعثرون لا يقيدهم نظام ولا يقودهم زعيم، ويتسامعون بنوايا سلطان زنجبار فيتمنون أن تجئ نجدة منه وهو سيدهم في الاسم، ولا يقع شئ من هذا؛ على النقيض تتقدم أوربا الفتية القادرة المنتظمة وتقسم الإقليم كله فتاتاً بينها، ولا يسع السلطان سعيد في زنجبار سنة 1895 وهو يرى الحلقات حوله تكتمل يوماً بعد يوم ورعاياه يفدون بأخبار الهزائم من الداخل، إلا أن يقول يتحسر على نفسه وآله "لست إلا عصفورة في مخالب صقر".

العرب في غرب أفريقيا
هذا عن شرق أفريقيا ووسطها البعيد ولكن الرباط العربي بغربها في القديم لا يقل قوة عن هذا الذى رأينا بعضه في الشرق والوسط، اتصلت هذه وتلك بجنوب الجزيرة العربية منذ فتح التاريخ عينيه ينظر، واتصل الغرب بالشمال الأفريقي وشماله الشرقي منذ أحقاب ممعنة في القدم، وكانت الصحراء كالبحر هنا، تتناثر على حوافيه في الشمال والجنوب المدن كالموانئ، تخرج القوافل من فاس ومراكش وقسطنطينية والقيروان، تحمل الملح، وكانت سلعة عزيزة في الجنوب والغرب، لغانا ومالي وجن وجاوا وتمبكتو وكانو، وتعود قوافلها تحمل الذهب والرقيق. عرف الجانبان من الصحراء، طرقاً ثلاثة للقوافل، أولها غربية تقلع من مراكش متجهة للمنحنى الشمالي من النيجر، والى الإقليم الشاسع غربه صوب المحيط وثانيها طريق وسط يبدأ عند تونس ويتجه للإقليم الكبير الواقع بين بحيرة تشاد ونهر النيجر، وطريق ثالث من الشرق لدى طرابلس ومصر، يسير للإقليم الواقع حول شاد كله، طرق كلها تدلك على ما كان من صلات قديمة قريبة بين الشمال الأفريقي، والإقليم العريض الذى عرف من بعد بالسودان، حين جاءه الرحالة العرب، ويقص عليك كتابنا هذا الذى بين يديك كثيراً من مفاخرهم في هذه المسالك الوعرة. ظلت هذه الصلة تجارية صرفاً حتى كان أول العهد المسيحي، حين دفعت التقلبات السياسية في الشمال، شعوباً عدة وقبائل مختلفة للنزوح عبر الصحارى للجنوب، هرباً من الحروب. توالت هذه الأفواج حتى القرن الثالث عشر، ونشأت معها منازل من المهاجرين العرب والبربر المتهودين، تعيش آمنة وسط أرض الزنج، يتراحمون ويتقاسمون العيش، ويتبادلون ما عندهم من ثقافات، كما فعل أهل جنوب الجزيرة العربية في شرق أفريقيا، وابتلع بحر الزنج هذه القطرات الوافدة، فلم يعد ما يميز قادماً من مقيم، وظلت حياتهم هكذا آمنة لا يروعها شئ، حتى وجدت أوربا طريقها إليهم، تتاجر في الرقيق، بادئ الأمر وتتولى شئونها شيئاً فشيئاً منذ القرن الخامس عشر، تمهد لاستعمارها في النهاية.

وللعرب في هذه القصة دور مركزي، فقد اندفعوا بعد الإسلام للشمال الأفريقي على النحو الذى يعرفه القارئ العربي، وكانوا قبلها جماعات لا خطر لها ولا شأن من المخاطرين، فتح الطريق لهم سهلاً معبداً بعد فتح مصر (639-642)، فاستولوا على الشمال بعد غزوات موفقة معروفة، يقدر المؤرخون أن ربع مليون من العرب استقرت بعدها في الإقليم واختلطت بأهله البربر، فاتخذوا الدين الجديد عقيدة، واللغة الغالبة لساناً وترعرع سلطانهم وامتد بين القرنين الحادي عشر والثاني عشر، على يد بني هلال وبني حسن، وغيرهما من قبائل العرب، وهى القرون التى شهدت بدايات الإمبراطوريات الإسلامية التى يتحدث عنها كتابنا هذا في اختصار لا يخل. كانت هجرات الشمال الأفريقي والشمال الشرقي في السودان القديم الممتد بين النيل والنيجر- متقطعة، قبل أن يستقر العرب استقراراً في الشمال، ولكنها اتصلت اتصالاً واسعاً بعد هذا العهد، فاتسع نطاق التجارة والهجرة والاستيطان فبعد أثر العرب في حياة الزنج وعمق. ما كان مجيئهم للإغارة كما فعل البربر قبلهم، ولا للإقامة الهاربة من الاضطهاد كما فعل اليهود والبربر المتهودين، حين شق عليهم العيش مع الروم. كان التجار والمهاجرون العرب يحملون رسالة ويتحدثون لغة مرموقة وكانوا بعد هذا يبحثون عن مجال للعيش والتجارة أوسع، واتخذت آثارهم هذه سمتها القوية التى بقيت لليوم في سحنة الكثيرين، ودين الأكثرية، ولغة الأقلية، خضع المزيج الذى تكون في الإقليم من بربر وزنج لسلطان العرب الفتي فاستأثروا بالتجارة والثقافة والحكم لا يشركهم فيها أحد، وترى آثار هذا في التكوين الجسدي للشعوب التى تعيش شمال الغرب جنوب الصحارى، فالدم الغالب شمال السنغال والنيجر هو الدم الخليط من الزنج والبربر والعرب، والدين الغالب هو الإسلام، واللغة العربية ليست عربية على الأكثرية، ثم يغلب الدم الزنجي جنوب هذين النهرين وان كنت ترى حتى يومنا هذا الأثر الذى تركته تجارة القادمين ودينهم وعاداتهم، رغم القرون التى مضت الآن على تلك الصلة.

هذا عن القارئ العربي عامة والكتاب، أما القارئ السوداني خاصة فلن أمضي وقتاً طويلاً معه أغريه، ذلك لأن السودان القديم هنا في "أفريقيا تحت أضواء جديدة" بطل من أبطال قصة الحضارة الأفريقية، واضح الميزات والسمات. هذا الكتاب حتم على القارئ السوداني الذى لم يتخصص في تاريخ بلاده القديم، ويريد ليقف على معالمه الكبرى، والفصل الذى كتبه دافيدسون هنا خير خلاصة كتبت في أية لغة حتى الآن عن تاريخ مروي الذى عرف لليوم، فأكثره كما سترى في الكتاب حبيس في ضمير الغيب بعد، وليس من شك أنه دلل بالذي ساقه من شواهد وبينات على مسئولية السودان أولاً والعالم ثانياً في العمل على اكتشاف ما بقي من آثار دفينة في صحراء مروي القديمة، لا لأنها قطعة من تاريخ السودان فحسب بل لأنها نقطة الانطلاق في تاريخ القارة، ويرجو الواحد منا أن تصل آراؤه في هذا السبيل أهل المال، ممن يحرصون على التاريخ الأفريقي، وهو بضع من تاريخ العالم الواسع، حجبته القرون تحت التراب. كانت مروي همزة الوصل بين أفريقيا السوداء وحضارة البحر الأبيض المتوسط ومصر القديمة، حملت ما أنجز الإقليمان صوب الغرب نحو المحيط الأطلسي، وصوب الشرق نحو المحيط الهندي، ولم يبق المؤلف شيئاً يقوله الواحد للقارئ غير المختص.


السودان / حروب الموارد والهوية د. محمد سليمان محمد.
دار كامبردج للنشر -  المملكة المتحدة.
رقـم الإيـداع :  المكتبة البريطانية : 1861640528

عرض : محمد الحافظ حامد عبد الله

يعد الكتاب مشروع متكامل يرصد جذور مسببات النزاعات والحروب في السودان وفق رؤوية تحليلية عميقة وجديده تنفذ لعمق أسباب النزاعات وتطرح تفسيراً موضوعياً لها.

§ مؤلف الكتاب هو الباحث المعروف د. محمد سليمان محمد الأستاذ السابق بجامعتي الخرطوم وجوبا، وحالياً يدير معهد البديل الأفريقي في لندن (
Institute For Africa
Alternatives)، وهو أحد أهم مراكز دراسات النزاعات في أفريقيا وأساليب فضها بـ (Conflict Resolution) كعلم إجرائي جديد يعني بتحديد الأسباب الحقيقية للنزاعات (التشخيص) وإيجاد الطرق والإجراءات العلمية لحلها (العلاج) ودراسة النزاعات تجد اهتماماً متعاظماً من أهم المراكز البحثية والجامعات في العالم الأول.
§ لهذا في تقديري أن د. محمد سليمان والمعهد الذى يديره مكسب كبير للسودان وأفريقيا لا سيما وان السودان يعج بالنزاعات والحروب الأهلية.
§ ينحو الكتاب في تحليله لاسباب النزاعات والحروب في السودان من منظور مختلف لما هو سائد أو مفهوم لدى المحللين، إذ يبرز الصراع حول الموارد الطبيعية والعامل الايكولوجي كأحد اهم مسببات النزاعات الدائرة حالياً في السودان وهذا المنظور الذي اصطلح على تسميته (Political Ecology) "كما أورد الكاتب" حيث يختزل معظم المحللون أسباب النزاعات في الهوية والعقائد الدينية وموروثات الحقبة الاستعمارية فقط وعزلها عن مسبباتها الاقتصادية والبيئية كحروب ونزاعات تحدث بالدرجة الأولى من التنافس والصراع حول الموارد الطبيعية، الكتاب من ثمانية فصول رئيسية تتناول النزاعات في أفريقيا وافرد جانب كبير للصراعات في السودان من عدة محاور : الجنوب، جبال النوبة، شرق السودان، دارفور بالإضافة لفصل يتطرق عن النازحين ومسارات الحروب والسلام في السودان.
§ يقدم الكتاب للباحثين والمهتمين بشأن الحرب الدائرة الآن في منطقة دارفور، الأسباب والمنطلقات الأساسية لها وفق قاعدة معلومات دقيقة ورؤية تحليلية شاملة عميقة تفيد كثيراً في فهم طبيعة وجذور المشكلة في دارفور، على الرغم من أن الكتاب صدر في مايو 2000م، أي قبل ظهور الحركات المسلحة في دارفور بصورة واضحة، إلا انه تنباء بشكل مدهش ودقيق لانفجار الوضع في دارفور، رؤية استباقية تؤكد صحة أدواته التحليلية، كما يقدم معلومات فائقة الدقة عن دارفور قل أن توجد في أي مركز بحثي أخر، حيث شملت المعلومات، دارفور من حيث الموقع الجغرافي والتكوين الديمغرافي والمجموعات الاثنية والعلاقات المتقاطعة بينهما وطبيعة المناخ، وافرد جانباً كبيراً للتحولات الايكولوجية في المنطقة والتدهور البيئي والتنمية والربط بينهما وازدياد وتيرة النزاعات في المنطقة وفق مخطط بياني
§ كما لفت الانتباه لدور الحكومة الحالية السلبي في المنطقة وغياب التنمية الشاملة في المنطقة.
§ دعم الكاتب في رؤاه التحليلية لدارفور بخرط توضيحية موضحاً ديار وحواكير المجموعات الاثنية وتصنيفها الايكولوجي ومسارات الرحل وحركتهم والمواقع التي تشهد وتائر حادة من النزاع والصدام من حيث الزمان والمكان، فضلاً عن مسح للغطاء البنائي والموارد والمناخ ومعدلات الأمطار في تلك المناطق.
§ تطرق الكاتب في جوانب كثيرة للاختلالات الهيكلية بين المركز والهامش فيما يتعلق بتوزيع السلطة والثروة والظلامات التاريخية لاهل الهامش وفقاً للمحاور التالية: q الخلل الهيكلي في توزيع الثروة والسلطة.
* انعدام التنمية الشاملة والخدمات في هذه المناطق. * هيمنة نخب المركز على مقدرات وموارد السودان. * الأخطاء التاريخية ومحاولة نخب المركز فرض ثقافة أحادية لمناطق تمايز ثقافي. * غياب طرح حلول دائمة قائمة على أسس العدالة والحرية والديمقراطية.
§ هذا الكتاب كما أورد مقدمه فريد من نوعه فهو يتميز بتخطي المفاهيم السائدة عن طبيعة النزاعات المسلحة في السودان (القارة الدموية) وذلك باعتماده على رؤيا تحليلية وشاملة لمسارات الصراعات المسلحة الأمر الذي مكنه من اقتراح حلول جذرية قائمة على دراسة الجوانب المتعددة لهذه النزاعات من حيث العامل الاقتصادي والبيئي وكذلك الجانب السياسي والاجتماعي والثقافي، كما يطرح محاولة رائدة في علم الايكولوجيا السياسي في النظر والتمعن في منشأ الحروب الأهلية والنزاعات وطرق معالجتها.
§ هذا الكتاب كما أورد مقدمه ضروري لكل السودانيين والسودانيات الذين يهمهم أمر السلام العادل والتنمية والديمقراطية في وطنهم.
§ قام بتحقيق الكتاب والمشاركة في إعداد باب شرق السودان، الدكتور صلاح آل بندر وهو من النخب البحثية في الشتات والخبير في شئون التنمية والأمن القومي، ويعمل منذ العام 1996م مديراً لمؤسسة المجتمع المدني السوداني بمدينة كيمبردج ببريطانيا وهي مؤسسة جديرة بالاحترام حيث تقوم برصد البحوث وتوثيق كافة المعلومات المتعلقة بالشأن السوداني.
§ المؤلف : د. محمد سـليمان محمد : خبير في شئون الأيكلوجيا السـياسية يعمل منذ عام 1990م مديراً لمركز البديل الأفريقي بمدينة لندن وهو باحـث محـترف ومتخـصص في مجالات فض النزاعات في أفريقيا "Conflict Resolution "، كما أن للدكتور / محمد سليمان دراسات مهمة في كافة مجالات الشأن السوداني.
§ وأستطيع أن أراهن أن للباحثين ومؤسسيتهما سيكون لهما دور كبير في الترتيب لمعالجة النزاعات الدائرة حالياً في دارفور وشرق السودان لا سيما وان موضوع حل النزاعات ليس هو شأن السياسيين وحدهم بل اصبح علم له آلياته وطرقه المنهجية هذا في حال موافقة اطراف النزاع وتغيرت نظرة حكومة الإنقاذ لإيجاد حلول مستدامة قائمة على العدالة والديمقراطية وفق رؤية لسودان جديد يسع الجميع، وقد رأينا استعانة وسطاء التفاوض في نيفاشا بمؤسسات متخصصة في شأن الموارد والنفط قدمت ورش عمل أسس تقسيم الثروة مجموعة أخرى متخصصة من البنك الدولي لتضع أسس التفاوض حول تقسيم الإيرادات، وكان لهذه المؤسسات دور كبير لوصول الطرفين للاتفاق الحالي في نيفاشا.
§ عليه ورغم كل المآسي التي تحدث ألان في غرب السودان (دارفور) إلا انه يحدونا أمل كبير في جلوس الأطراف للتفاوض لان الضمير الجماعي للمجتمع الدولي والشعب السوداني يرفض بشدة استمرار هذه الماسي، وللحكومة أن تعيد النظر لجعل السودان قارة تسع الجميع.
§ واختم بحكمة لبرنولد برخت التي استهل بها الكاتب محمد سليمان " الحرب القادمة ليست بالحرب الأولى، فقد سبقتها في التاريخ حروب وحروب، انتهت الحرب السابقة بمنتصرين ومهزومين، عند المهزومين جاع عوام الناس وجاع عوام الناس عند المنتصرين ".




لمحات عن ممالك كوش
ادريس عبدالله البنا
صادر عن مركز محمد عمر بشير / جامعة أمدرمان الأهلية 2003
عرض د. خضر عبدالكريم

تحكم البحث الأكاديمي الرصين ضوابط متفق عليها مثل التحديد الدقيق للمسائل التى يود الدارس معالجتها والفرضيات التى يريد اختبارها والمنهج الذى سيتبعه في البحث والكيفية التى تجمع بها مادته وأساليب تحليل تلك المادة، إضافة للاطلاع على المراجع الأساسية في موضوعات البحث. ودون هذه الشروط تصبح النتائج التى يتوصل إليها الباحث ضرباً من الرجم بالغيب والتكلم بالظن.

وكتاب "لمحات عن ممالك كوش" الذى يتناوله العرض يدخل ضمن مسمى البحث الأكاديمي، فهو يحتوي على النص الكامل للاطروحة التى منحت بموجبها جامعة الخرطوم الباحث درجة الدكتوراة في الآثار. ولا بدَّ في البداية من التأكيد هنا على هذه الحقيقة، إذ أنني قمت بمقارنة الكتاب بالرسالة المودعة بمكتبة الجامعة فقرة بفقرة. وسوف أبين باختصار في هذا العرض ما إذا كان الكاتب قد التزم أم أخل بشروط وضوابط البحث العلمي التى أشرت إليها.

يقع الكتاب في أربعة أبواب يتناول الثاني والثالث والرابع منها موضوعات البحث الأساسية وهى: الفنون الجميلة والعقيدة الدينية واللغة والكتابة في ممالك كوش (كرمة ونبتا ومروي).

أولى الملاحظات هى أن الباحث لا يشير الى القضايا التى يود معالجتها على نحو محدد، ولا الى المنهج الذى اتبعه في دراسته، ولا الى الطرق التى استخدمها في تحليل المعطيات، بل لا نجد في الدراسة تحديداً قاطعاً لتلك المعطيات التى تناولها بالتحليل. الملاحظة الثانية هى اعتماد الكاتب اعتماداً أساسياً على مراجع ثانوية واغفاله تماماً لأكثر المصادر الرئيسة المتعلقة بموضوعات الفنون الجميلة والدين واللغة.

والباحث لا يحدد لنا قضايا البحث وفق المعايير التى تواضع عليها الأكاديميون، بل يشير في عبارات مغرقة في عمومياتها لبعض ما سيتناوله. فهو يقول : "أن ما كتبه المؤرخون ... عن ممالك كوش لا شك أمر مقدر ... لذا لا بدَّ للكاتب أن ينظر الى موقع كوش وأهميتها وفق ما أبرزه التاريخ وعرفه المؤرخون. إن موضوعاً كهذا لا بدَّ أن يكون شيقاً ومفيداً لأهل السودان وملفتاً الى ما أهمله التاريخ وما قصده الجاحدون من مؤرخين وغيرهم لحقيقة وجود ممالك كوش وعظمة ملوكها .." (ص. 10-11). ومع ذلك فإن الكاتب لا يسمي في أبواب بحثه أولئك المؤرخين الحاقدين أو كيف أنكروا وجود ممالك كوش.

وكمثال على غياب التحديد الواضح للمعطيات ذكر المؤلف : "... أن زياراته ومشاهداته شملت النقعة والمصورات ومروي والبركل والكرو ونوري وكوه ودنقلا وأرقو وكرمة ..." (ص. 13). لكن الكاتب لا يبين الغرض من زيارة تلك المواقع وما هى المادة التى جمعها منها لأغراض بحثه. وفوق ذلك لا يشير الى أنه قد قام بدراسة أية مواد أثرية أخرى ذات صلة ببحثه. وفي غياب مادة البحث ليس بمستغرب ألا يحدد المؤلف المنهج الذى اتبعه في الدراسة.

والباحث كما أشرنا لم يطلع على المصادر الأساسية لدراسته. ومع ذلك فقد كتب يقول : "يؤكد الكاتب أن تاريخ بلاده قد استهواه دوماً لدرجة أنه تفحص ما كتب عن بلاده بالمكتبات المختلفة كمكتبة الكونغرس الأمريكي ومكتبة جامعة بوسطن ومكتبة هارفارد بأمريكا والمكتبات المختلفة بجامعات السودان ... وتتبع بشغف ما كتبه هيرودوتس الإغريقي وديودورس وكلاً من جيمس بروس وبيركهارت وما كتبه فردريك كايو ... وهيرن ولبسيوس وواليس بدج وقارستانج وقريفيث وسايس ورايزنر ودنهام وهنتزه وبرستد وآركل وشيني ... وسترابو ..." الخ. (ص. 14).

كان بالوسع التغاضي عن هذا التباهي بسعة الاطلاع لو أن ثمة سند له بالكتاب. فبالنظر الى قائمة مراجع البحث لا نجد أثراً لمعظم هؤلاء الذين أشار إليهم. كما أن المؤلف لم يشفع زياراته للمواقع الأثرية التى عددها بالاطلاع على نتائج الحفريات والأبحاث التى أجريت بها. فلا ذكر في الكتاب لمؤلف مكادام عن كوه والذى يحتوي على نتائج حفريات جامعة أكسفورد في المعابد النبتية بالموقع، والذى نشر بين أعوام 1949-1955، ولا الى نتائج حفريات جمعية دراسة الآثار السودانية والتى أجريت بالموقع نفسه. كما لا يتعرض الكتاب لما نشره رايزنر في العقد الثاني من القرن العشرين، ومن بعده دنهام عام 1970 عن معابد البركل، ولا الى الدراسات العديدة حول تلك المعابد والتى أجراها تيموثي كندال منذ أوائل ثمانينات القرن الماضي. كما لا يوجد بالكتاب ما يشير الى أن المؤلف قد اطلع على نتائج حفريات جون غارستانغ في معابد مدينة مروي في السنوات 1910 - 1914 أو نتائج حفريات بيتر شيني في المدينة نفسها بين أعوام 1965 و 1984 والتى كشفت عن عدد من المعابد التى لم تكن معروفة من قبل وأضافت الكثير لمعرفتنا بالديانة الكوشية. وأغفل الكاتب مؤلفات هنتزه عن معبد الأسد بالمصورات وهو أول معبد شيد للمعبود أبادماك. وفضلاً عن هذا لا يتعرض الكاتب لهذا الإله المرَّوي إلا في بضعة أسطر. ليس ذلك فحسب، بل أهمل المؤلف الأساسي عن هذا المعبود والذى نشره زابكر عام 1975. ولا يتطرق الكاتب الى نظرية الدمج والتوفيق بين المعتقدات (syncretism) في الديانة المرَّوية والتى كتب عنها زابكر باستفاضة. ولم أجد ذكراص في البحث لآلهة مرَّوية أخرى مثل سبويمكر، ولا الى تأثير مصر البطلموسية والرومانية على ديانة المرَّويين. وكل ذلك أمر لا يستقيم في رسالة تفرد باباً كاملاً للديانة والعقيدة في الدولة الكوشية. وما كان الكاتب في حاجة لزيارة مكتبات الجامعات العالمية الكبرى للحصول على هذه المؤلفات فجميعها - وكثير غيرها - موجودة بمكتبة جامعة الخرطوم.

وما سقته عن باب البحث المخصص للديانة والعقيدة يصدق أيضاً على الباب الذى أفرده المؤلف للفنون الجميلة بممالك كوش من حيث ضعف الإلمام بالمصادر الأساسية التى تناولت بالتحليل والتفسير مختلف أشكال التعبير الفني لدى الكوشيين. فعدد المتخصصين في دراسات الفن الكوشي القديم على نطاق العالم لا يكاد يصل الى عشرة، ومع ذلك فإن أعمال هؤلاء بادية للعيان بغيابها كما يقولون. من ذلك دراسات الباحث الهنغاري لازلو توروك حول الفن النبتي والمرَّوي وعلاقته ببنية العقل ونمط التفكير الكوشي الذى وصفه بالمحافظة، مما أدى، برأيه، الى جمود أشكال التعبير الفني. ومنه أيضاً كتاب الباحث توروك نفسه حول رسوم تيجان الملوك والملكات الكوشيين والذى كرر فيه الرأي نفسه. وفي مجال النحت البارز لا يتناول المؤلف أعمال الباحثة الروسية ناتاليا بومرانتسيفا حول قواعد التشكيل الفني وعلاقتاه بالأبعاد والنسب الهندسية في فن النحت البارز في معبد الأسد بالنقعة، وصلتها بالتقاليد الفنية المحلية والخارجية (انظر بحثها هنا). ولا يشير الكتاب الى الدراسة الفنية التى قامت بها قامرفالرت لأعمال النحت البارز في معبد الأسد بالنقعة. كما أهمل الكاتب مؤلف سوزان شابمان وداوس دنهام حول أعمال النحت البارز في المقصورات الجنائزية للأهرام المرَّوية، وهو المرجع الوحيد في بابه. وتعتبر اللوحات الجدارية الملونة من أندر المخلفات الفنية من العهد المرَّوي ومع ذلك لا نجد ضمن مراجع الكتاب الدراسة الوحيدة حول هذه اللوحات التى اكتشفت في مدينة مروي والتى قام بها بيتر شيني وربيكا برادلي. وفي مجال النحت في الفترة النبتية لا يبدو الكاتب على علم بمؤلف ادنا رسمان حول هذا الموضوع أو مقالات ستيفن فينيخ ونظرية الأخير حول "الواقعية الفظة" في فن النحت خلال تلك الفترة، أو ما كتبه فيركوتير ولكلان عن فنون كوش في عهديها النبتي والمرَّوي. ولا أدري كيف يستطيع باحث جاد في الفنون الكوشية أن يتمكن من موضوعه دون الرجوع الى مؤلف فينيخ حول الفن السوداني القديم ومجلد المقالات المصاحبة له.

ونجد في الكتاب اشارات متفرقة لفن صناعة الفخار دون دليل على ان المؤلف قد تعامل على نحو مباشر مع أية مجموعة بعينها من هذه الصناعة مع غياب أي ذكر للعديد من التصنيفات التى نشرها المتخصصون حولها. ويكتفي المؤلف بتعبيرات عامة مثل قوله : "وقد اشتملت مجموعات فخار كرمة على بعض صناعة  الخزف وكان متميزاً على أنواع الفخار فيها" (ص. 38). ولا يفيد القارئ والدارس شيئاً استخدام الكاتب لصيغة منتهى التفضيل والمحسنات اللفظية كقوله أن فخار كرمة "ذو القد الأهيف معسول اللمى ... كان من أبدع ما أنتجته أنامل أهل كرمة ... وقد وصل في جودة صناعته أرقى المستويات من حيث الجمال والقوة والابداع" (ص. 38). ولا أدري كيف يتسنى لدارس لفخار كرمة أن ينجز مهمته دون أن يتناول تصنيف رايزنر لذلك الفخار. وما يقال عن فخار كرمة ينطبق على الفخار المرَّوي حيث يشير الكاتب اليه اشارات عامة على نحو "وقد ظهرت الذاتية المرَّوية في الخزف والفخار بمستوياته المختلفة مرحلة بعد مرحلة في طول البلاد وعرضها" (ص. 121). وهو لا يتعرض البتة الى تصنيفات الفخار المرَّوي التى وضعها كل من آدمز لشمال السودان وشيني لفخار مدينة مروي أو أية من دراسات الفخار الأخرى التى قام بها العديد من الباحثين في الحضارة المرَّوية.

واشفاقاً على القارئ من الملال سأكتفي باثنتين فقط من نقائص الباب الذى يتناول "اللغة والكتابة بممالك كوش". أولاهما أن مراجع الكتاب خالية من أي ذكر لمؤلف من أعمال قريفيث وهو العالم الذى يعود له الفضل الأكبر في فك رموز اللغة المرَّوية والاهتداء الى معرفة القيم الصوتية لحروفها. والثانية الخطأ الذى وقع فيه المؤلف حين كتب "وتحدث أهل كوش باللغة المصرية القديمة" (ص. 209)، في حين أن المعلوم هو استخدام الكوشيين للغة المصرية القديمة لكتابة النصوص الدينية وحوليات الملوك. وأحد أوجه الغرابة في ما أتى به المؤلف أنه يستدل في قوله بمقتطف من وليم آدمز، بينما نجد أن آدمز قد أدلى برأيه بوضوح حول هذا الأمر بقوله أن سكان السودان النيلي في هذه الفترة تحدثوا بلغات ولهجات مختلفة.

والبحث حافل بأخطاء أخرى منها قول المؤلف أن الإله آمون يصور دائماً في هيئة واحدة هى هيئة إنسان برأس كبش (ص. 179). ومع أنه يشير في هذا الصدد الى مؤلف الدكتور عمر حاج الزاكي بعنوان "الإله آمون في مملكة مروي" إلا أن الكاتب - على أحسن الافتراضات - لم يقرأ ذلك الكتاب بتمعن، إذ أن د. عمر الزاكي يقول في كتابه .. "لم يبتدع المرَّوي هيئة خاصة بآلهة تختلف عما عرف لهذا الإله من أشكال في الأصول المصرية التى أخذت عنها" (ص. 36). وقد خصص د. عمر الزاكي فصلاً كاملاً في كتابه أوضح فيه بجلاء أن الإله آمون صور في آثار الدولة المرَّوية في أربع هيئات : في شكل كبش جاث، وفي هيئة إنسان، وفي شكل رجل برأس كبش، وفي هيئة أسد برأس كبش، كما رصد تفاصيل تصوير الأشكال المتعددة لهذا الإله في هيئاته الأربعة. وفي دراسة يفترض أنها تعني بالعقيدة الدينية والفن كان حرياً بالمؤلف أن يعني بالتحليل الفني لهذه الأشكال ومغزى تعددها بالنسبة للعقيدة.

ويجنح الخيال بالكاتب الى حد القول بأن جدران منازل كرمة كانت مزينة (ص. 124) علماً بأن تلك الجدران قد اندثرت ولم تبق منها إلا أسسها، ويناقض المؤلف نفسه حين يؤكد هذه الحقيقة في موضع آخر من الكتاب بقوله : "وقد أشارت الحفريات الى أكوام وخرائب لأساسات مساكن من اللبن عفا عليها الدهر" (ص. 36).

ولا أدري الى أي مرجع استند المؤلف حين كتب : "واستنتج هنتزه من دراسته أن المباني الماثلة أطلالها اليوم بالمصورات الصفراء أنشئت عام 250 ق.م. (ص. 128). فقد حدد هنتزه منذ عام 1968 وفقاً لنتائج حفرياته ووسيلة الكربون المشع أن مباني المصورات التى تعود للفترة المرَّوية جرى انشاؤها على ست مراحل تمتد من القرن السادس قبل الميلاد وصف القرن الرابع الميلادي.

ويزعم الكاتب أن العلماء "أطلقوا اسم البليستوسين على العصر الحجري الحديث" (ص. 54). والبليستوسين (Pleistocene) هو حقبة جيولوجية بدأت قبل حوالي 1,640,000 (مليون وستمائة وأربعين ألف سنة) وانتهت قبل قرابة عشرة ألف عام مضى بينما بدأ العصر الحجري الحديث (Neolithic) في الألف الثامن قبل الميلاد.

ويجعل الكاتب من المؤرخ الإغريقي هيرودوتس - والذى شغف بقرائته كما قال - معاصراً لبطليموس الثاني (ص.216)، بينما ولد الأول نحو عام 480 قبل الميلاد وحكم الثاني مصر بين سنوات 282 و 246 قبل الميلاد.

ولا تقتصر الأخطاء على الوقائع التاريخية بل تشمل الحقائق الجغرافية البسيطة، مثل قول الكاتب عن كرمة - والتى يشير الى أنه قام بزيارتها - تقع ".. على الشط الغربي لنهر النيل من الجهة الشمالية لمشارف دنقلا" (ص.31).

ولو جاءت مثل هذه الأخطاء في مقالة لطالب جامعي في مقتبل سنيه الدراسية لما أجيزت مقالته، فما بالكم بورودها في رسالة دكتوراة!

والبحث في مجمله مضطرب الأجزاء مفرط في الحشو وينم عن عجلة في الاعداد وملئ بالجمل التى لا مكان لها من الاعراب. فالفصل الذى يتناول فنون كرمة أتى في صفحة واحدة (124). ومن أمثلة الحشو من ما جاء بالكتاب عن مرض الفنان الراحل أحمد المصطفى وعلاجه بالموسيقى (ص. 110). ولا يخلو سطر واحد من قائمة مراجعه من خطأ أو اثنين أو ثلاثة. ويحار العقل فيما إليه المؤلف في تناوله لخلاف ملوك نبتا مع كهنة آمون مما جعلهم ينتقلون الى مروي الأمر الذى وصفه بأنه "باعد بين الحكم والدين في النهاية وهو أمر أشبه بعلمانية اليوم" (ص. 191).

ومسئولية الكتاب لا تقع على عاتق كاتبه وحسب، بل يتحمل الناشر قدراً كبيراً منها. فتعميم ما يكتب عن القضايا العلمية أمر ذو شأن وخطر، لذا يلجأ الناشرون الى الاستعانة بذوي التخصص والاستنارة برأيهم حول ما يكتب قبل الدفع به الى المطابع. وفي ظني أن القائمين على أمر مركز محمد عمر بشير يتبعون هذه القاعدة، غير أني لا أدري ان  كانت قد طبقت على الكتاب الذى بين أيدينا. ومكمن الخطر هنا أن الهالة التى تحيط بالرسائل الجامعية قد تدفع بعض الطلاب والقراء الى اعتماد الكتاب مرجعاً علمياً.

ختاماً قد يقول قائل أن النقد الموضوعي لأي جهد بحثي ينبغي أن يشير الى ايجابياته لا التركيز فقط على مثالبه. لكن ايجابيات أي جهد أكاديمي هى فيما يضيفه لنا من معارف جديدة. وقد نظرت ملياً في هذا الأمر ولم أجد بالكتاب معارف لم تكن متاحة من قبل، ناهيك عن تشويهه لبعض من تلك المعارف. وما كان بوسع المؤلف أن يضيف جديداً باعتماد بحثه على مراجع ثانوية. ومع ذلك فقد يحمد للمؤلف أنه اختار لكتابه عنواناً أقل طموحاً من ذلك الذى وضعه لرسالة الدكتوراة، إذ أن عنوان الأخيرة هو "أقرب الرشد وأصدق الفهم للثقافة المادية بفنونها الجميلة والعقيدة واللغة في كوش"!!!








       

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق