الأربعاء، 15 مارس 2017

أصل الدولة النبتية: الكرو والبينة الخاصة بالأسلاف الملكيين

أركامانى مجلة الآثار والأنثروبولوجيا الســـودانية
مجلة الآثار السودانية/ العدد الثامن/ يوليو 2006





أصل الدولة النبتية: الكرو والبينة الخاصة بالأسلاف الملكيين
تيموثي كندال
ترجمة د. أسامة عبدالرحمن النور


تحاول الورقة إعادة تقييم المعطيات الميدانية الفعلية لأعمال ريزنر في الكرو، مع التشديد بصفة خاصة على المكتشفات من المدافن الستة عشر للأسلاف غير المسميين السابقين لـ "بيَّا" (الكرو 17) وجيله. أكد البحث بصورة أساسية كرونولوجية ريزنر للمدافن، مع أن تاريخاً أدنى 850-830 ق.م. قد تم اقتراحه بالنسبة لتأسيس الجبانة، وذلك اعتماداً على دمج البينة الآثارية الداخلية والبينة التاريخية الخارجية من مصر. تقدم سلسلة من التواريخ الراديوكاربونية، بالإضافة إلى معطيات سابقة غير منشورة من دفتر يوميات ريزنر الميدانية التى تكشف أن الكرو كانت مدينة جيدة التحصين بسور محيط، معاصرة غالباً أو حتى سابقة للمدافن الأقدم.

تقترح الورقة تعديلاً طفيفاً في ترتيب ريزنر ودنهام لمدافن الأسلاف؛ وتصحح أيضاً نظريتهما الخاصة بتطور المدفن. تقدم بينة من واقع دفاتر اليوميات الحقيقية بأن ما يسمى بـ "المدافن التلية" كانت في الحقيقة بنيات مربعة اسطوانية شديدة الانحدار، أشبه بمقابر المجموعة الثالثة النموذجية، وأن ما يسمى بـ "المساطب" كانت في الواقع أهرام صغيرة على قاعدة مربعة عالية. ستة (واحتمالاً سبعة)1 من المدافن افترض أنها تنتمي إلى حكام ذكور، والبقية لزوجاتهم، وافترض على أساس البينة الهيكلية وغيرها، أن الملكات الرئيسات، حتى عهد بيَّا، قد تم دفنهن مباشرة إلى الجنوب الغربي (أي على الجانب الأيمن) لأزواجهن. افترض أيضاً أن أولئك الأزواج الست (أو السبعة) المفترضين لا يمثلون "أجيال" متعاقبة (إذا استخدمنا مصطلحات ريزنر ودنهام) لكن أزواجاً متعاقبين لإخوة ملكيين (أو أبناء خال، كما قد يكون عليه الحال) وزوجاتهم – نوع من التعاقب في البينة في الأزمان التاريخية الأقدم. بكلمات أخرى، فإن المدافن الستة عشر انتمت احتمالاً ليس لأكثر من ثلاثة أجيال بشرية حقيقية سابقة لـ بيَّا. هذا الوضع قد يبدو وكأنما يجلب تواتر مدافن الكرو في خط واحد مع سلسلة نسب أسبالتا، كما هي مبينة في مسلة تتويجه، والتي إن فهمت حرفياً، تتضمن أن مؤسس الأسرة لم يكن أكثر من جد أو خال أكبر لـ آلارا وكاشتا2.

تسعى الورقة إلى وضع جبانة الكرو في منظورها التاريخي عن طريق مراجعة المعطيات الخاصة بنهاية الحكم المصري في النوبة والتوثيق ذو الصلة بالظروف هناك خلال المرحلة الانتقالية الثالثة. تعاد دراسة نقش الملكة كاريمالا "كاديمالو" في سمنة غرب ويُفسر بحسبانه وثيقة مهمة، احتمالاً "رسالة ملكية إلى المتوفى" تصف أزمة اجتماعية وسياسية حادة محتملة في النوبة خلال فترة متأخرة للأسرة العشرين أو الحادية والعشرين، والتي تعززها بينة آثارية – أو عدمها. ظهور مشيخة الكرو المبكرة يُعلم صعود مجموعة نوبية غير متمصرة في النوبة العليا بحلول القرن التاسع ق.م.

باختبار البينة ما بعد المملكة الحديثة من دبيرة شرق، وقصر إبريم، وجبل البركل، وكوة، ودمج الاستنتاجات الناتجة مع المعطيات التاريخية من مصر، تطرح الورقة نظرية بشأن أصل مشيخة الكرو تنسب انمساخ طبيعتها السريع من نوبية محلية إلى مصرية، وموالاتها المفاجئة لعبادة آمون إلى تأثير المصريين المحليين في الكرو، والذين يمكن تتبع وجودهم المادي والثقافي المتزايد في مجموعات المدافن الأقدم. بسبب الأصل المصري الجنوبي الواضح لبعض المصنوعات الفخارية المكتشفة مع المدافن، وبسبب بينة النشاطات الطقوسية والمعمارية المصرية، تم الافتراض، على أساس بينة ظرفية، بأن بعض أولئك الأفراد قد يكونوا كهنة معارضين لاجئين من الكرنك، وجدوا ملاذاً لهم في القصر النوبي حماية من الاضطهاد بفعل معارضتهم لتنصيب الكاهن الأعلى أوسركون، ابن تاكلوت الثاني (حوالي 840-820 ق.م.). وبسبب أن جبل البركل يبدو أنه كان نوعاً من الضريح التوأم للكرنك في النوبة خلال المملكة الحديثة، وبسبب أن المعطيات المنشورة هنا تكشف أنه صار أطلالاً خلال المرحلة الانتقالية الثالثة المبكرة، فإن استئناف عبادة آمون في البركل تنسب إلى أولئك اللاجئين المتخيلين من طيبة العاملين في تحالف مع الملكية النبتية الوليدة. يُنسب نشاط بناء المعابد في فترة ما بعد المملكة الحديثة في جبل البركل وكوة لـ آلارا، والذي يتم إظهاره بوصفه الملك "آري" المذكور في مسلة كوة. ميثولوجيا الملوكية الكوشية المميزة اللاحقة، وإدعاءها لأن تكون طيبية، وتبنيها للصل المزدوج يمكن تفسيرها بحسبانها جوانب لعبادة الملوكية والتي يعتقد النبتيون بأنها قد تم تأسيسها حول جبل البركل عن طريق تحتمس الثالث. تشير البينة إلى أن أيديولوجيا الملوكية هذه قد تجلت للكوشيين من نصوص تحتمس الثالث التى اكتشفوها في جبل البركل وتم استخدامها كاملة للمرة الأولى عن طريق بيَّا لتشكيل شخصيته الملكية ولتبرير احتلاله وحكمه لمصر العليا.

بدون مصادر كتابية ستظل الأحداث التاريخية التى أفضت إلى نشوء الأسرة الكوشية المتمصرة في نبتة بعيدة عن الفهم الواضح. مع ذلك، فإن مادة "بصمات الأصابع" الخاصة بتلك الأحداث تم التعرف منذ أزمان على وجودها في بقايا المدافن الأقدم في الكرو، والتي نقب فيها جورج ريزنر والبعثة المشتركة لجامعة هارفارد- متحف بوسطن للفنون الجميلة في ربيع 1919، تقع الكرو، أو ببساطة "كرو"، 15 كيلو متر بأسفل مجرى النهر من جبل البركل على الضفة اليمنى للنيل، وأصبحت مشهورة أبدياً بفضل اكتشاف ريزنر هناك لأهرام صغيرة مدمرة لكل حكام مصر التاريخيين الذين كونوا الأسرة الخامسة والعشرين باستثناء واحد منهم، وكذلك أهرام ملكاتهم الرئيسات والفرعيات، بل حتى جبانة خاصة بخيولهم. المفاجأة غير المتوقعة كانت اكتشاف أن مدافن خمسة ("بعانخي")، وشباكو، وشبيتكو، وتانوت أماني، وأعضاء أسرهم لم تك هي الأولى التى بنيت في الموقع؛ بل كانت في الغالب الأخيرة في سلسلة خطية طويلة لأسلاف أسريين غير معروفين. مثلت الـ 16 مدفناً الأقدم تواتراً غير منقطع لأسلاف غير مُسميين، تحولت مدافنهم بانتظام في الشكل، تقهقرياً في الزمن، إلى نوع تقليدي نوبي من المقبرة التلية. المقبرة الأولى من هذا النوع، تحتل الموقع الأفضل في الجبانة، نسبها ريزنر إلى مؤسس الأسرة وأرخها ببواكير القرن القرن التاسع ق.م.

كان الدفن الأخير في تواتر المدافن هو الخاص بالملك تانوت أماني (تالتاماني - أسامة)، الأخير من حكام نبتة الذين احتلوا مصر (حوالي 664-653 ق.م.). اختار الملوك اللاحقون، متبعين مثال عم تانوت أماني وسلفه، تهارقا، أن يشيدوا أهرامهم بالقرب من هرمه في نوري، على بعد 25 كيلو متر بأعلى مجرى النيل على الضفة المعاكسة. أصبحت مدافنهم الآن أكبر أربعة مرات من حيث الحجم مقارنة بمدافن الكرو، معوضة بالتالي في الحجم ما فقدته الأسرة في الإمبراطورية. مع ذلك فإنه في منتصف القرن الرابع ق.م.، بعد أن دُفن الملك التاسع عشر في نوري، اختار الملك العشرون، غير المعروف اسمه، أن يكسر التقليد وشيد هرمه وهرم زوجته مجدداً في الكرو. يبدو أن اختياره لموقع الهرمين لم يك أمراً عشوائياً. وضع هرم زوجته مباشرة أمام مدافن الملكات العظيمات للأسرة الخامسة والعشرين، ووضع هرمه الخاص أمام صف مدافن الأسلاف ومباشرة بالقرب  وعلى "الجانب الأيمن" لمدفن بيَّا. هذان الهرمان المتأخران (الكرو 1 و 2) كانا الأخيران من بين المدافن الملكية التى شيدت في الكرو، لكنهما يقدمان إثباتا لاستمرار الأهمية السياسية للموقع والتوقير الذى لقاه على مدى ثلاثة قرون بعد أن توقف استخدامه.

في حين أن موقعاً كهذا سوف يتم تنقيبه اليوم على مدى عدة مواسم وسيحتاج لعمل سنوات من أي عالم للآثار، فإن ريزنر أكمل استكشافه في موسم واحد من فبراير حتى مايو 1919. بالتالي قام بكتابة فقط ثلاثة تقارير مبدئية ونشرها، كل تقرير منها موجه إلى نوع من قرائه الأساسيين : السلطات البريطانية-السودانية، التى منحته تصاديق العمل (Reisner 1919a,b)؛ العالم الأوسع لعلماء الدراسات المصريولوجية (Reisner 1920a)؛ وأعضاء أمانة متحف بوسطن للفنون الجميلة التى مولت أعماله (Reisner 1921). بمجرد أن قدم تفسيراته الأولية للمادة – تاريخ وكرونولوجيا المدافن كما فهمها، والعدد المحتمل للأجيال التى تمثلها المدافن، وتطور ممارسات الدفن الممثلة فيها، والتعرف على أصحاب المدافن، إذا عرفوا، ورؤية عامة للمحتويات، ترك الموضوع كلياً وللأبد، مستنتجاً بطريقة شاذة، رغم ممارسة قدر عال من المنطق في كل العمل، نظرية تتعلق بأصول الأسرة تبدو اليوم غير منطقية على الإطلاق. ففي حين يعترف بأن المدافن الأقدم كانت نوبية كلياً من حيث الشكل، فإنه حاول مع ذلك نفي الأصل النوبي للأسرة باستخدام حجة معقولة لتركيب نظرية تقول بأن ملوكه كانوا من أصل ليبي (أي، من ذوي البشرة الفاتحة) ويحتمل أن يكونوا مرتبطين بصلة بالأسرة الثانية والعشرين المصرية-الليبية. "بينة" ريزنر الأساسية، فيما يبدو، لم تك شيئاً أكثر من مجرد تحيزه العنصري الخاص3.

مندفعاً دوماً لتنفيذ التنقيب فإن ريزنر لم يتمكن أبداً من نشر تقارير مفصلة لأعمال التنقيب التى نفذها في السودان نسبة لأعباء المزيد من الاكتشافات في مصر. ترك هذه المهمة لمساعده دنهام Dunham، الذى أصبح رسمياً أميناً لشعبة المصريات، في متحف بوسطن للفنون الجميلة بعد وفاة ريزنر في 1942. شرع دنهام مباشرة فور استلامه منصبه في حل إشكالية نشر أعمال تنقيب ريزنر في نبتة ومروي، وتكشف ببليوغرافيته لتلك الفترة اهتمامه المجدد بالموضوعات السودانية (Simpson-Davis 1981: iv-viii). كان دنهام نفسه قد عمل مع ريزنر في جبل البركل ونوري والبجراوية، لكنه لم يك موجوداً أثناء أعمال التنقيب في الكرو. مع ذلك فقد اقتنى معرفة لصيقة بالمادة حيث أنه ظل على مدى العشرينات والثلاثينات وثيق الصلة في بوسطن بـ ريزنر، يسجل ويخزن في المتحف كل الآلاف من الموضوعات والعينات الآثارية المرسلة من مصر والسودان. لكونه لم يك موجوداً بالسودان شخصياً منذ 1924، عاد دنهام وزار كل المواقع مجدداً في 1946، في هذا الوقت كان يعمل جنباً إلى جنب مع آركل الذى كان يحضر تاريخه للسودان (Arkell 1955)، ومع مكادام الذى كان يجهز النشر النهائي لمعابد كوة (Macadam 1949; 1955). طور علاقة صداقة قوية مع هذين العالمين، واللذين كان كثيراً ما يستشيروهما فيما يتعلق بتفسيرات التاريخ النبتي والعلاقات المتبادلة للأسرة النبتية الحاكمة. سوف تشكل أعمال نشر الكرو في 1955 – بعد واحد وثلاثين عاماً بعد انتهاء أعمال التنقيب – الحلقة الأولى من خمسة مجلدات لعمله الرائد جبانات كوش الملكية (RCK).

كما كرر دنهام القول عن تقاريره4، أنها لا تطمح لأن تكون "الكلمة الأخيرة" بشأن أي من المواقع أو اللقيا لكن قصد منها أن تستخدم مراجعاً مناسبةً للباحثين الذين لا تتوفر لهم فرصة الوصول إلى السجلات الأصلية والمواد في متحف بوسطن. هُدفّ منها أن تقدم بطريقة موجزة ومنظمة ما اعتقده دنهام في ذلك الوقت المعطيات الأكثر أهمية، مع وصف المدافن وخرائطها، والبينة عن أصحابها، أو، إذا تم التعرف عليهم، موقع المدافن في الكرونولوجيا، وقائمة مختارة من الموضوعات مع رسوم وصور فوتوغرافية. كما اعترف دنهام بصراحة، فإنه لم يتمكن من تعداد، ورسم، ونشر صور فوتوغرافية لكل الآلاف من الموضوعات التى سجلها ريزنر وذلك لمحدودية المساحة؛ بالتالي فقد اضطر إلى اللجوء إلى خيارات ذاتية. واعتقد أن عرضه سيكون كافياً لباحثي المستقبل، الذين، خلافاً له، سيمتلكون الوقت لتفسير المادة بحذر أكبر وتحديد مضامينها بالنسبة للتاريخ. في الوقت نفسه لم يتخيل دنهام أن تصبح أعماله معياراً لمراجعة أفكار ريزنر وتصحيحها؛ رأى فيها أساساً ملاحق إضافية لتقارير ريزنر المبدئية، التى يتوجب استخدامها معها. نظرية ريزنر الشاذة حول الأصل الليبي للملوك الكوشيين، والتي لم تجد قبولاً واسعاً، فإن دنهام، احتراماً منه لـ ريزنر، تجنب ذكرها في الجزء الأول من جبانات كوش الملكية (Dunham 1950).

مع تقادم السنوات حاول العديد من الباحثين، وهم يمتلكون بين أيديهم فقط أعمال ريزنر ودنهام، استقراء معنى جديد من المادة. قدم كل من آركل (Arkell 1955) وديكسون (Dixon 1964) اعتراضات قوية على النظرية الليبية وقدما أدلة على أن الملوك كانوا، في الواقع، من أصل نوبي محلي. آخرون كرروا فقط معالجة ريزنر للمادة في مناقشاتهم للأصول النبتية. استخدم علي قسم السيد (Gasmelseed 1982) المعطيات المنشورة لفحص استنتاجاته التى توصل إليها من اختباره الذاتي لسطح الموقع. كان أحمد علي حاكم (Hakem 1971=1988:240-255)، على كل، أول من طرح كرونولوجية ريزنر للمدافن تحت التساؤل، ولفترة وجدت نفسي، بصورة مستقلة، واقعاً تحت التشكك نفسه. في عام 1980 بعد اكتشاف وعاء برنزي في مخزن متحف بوسطن للفنون الجميلة يحمل زخرفاً رعمسياً تقليدياً من الكرو، المدفن 1 (المدفن التلي الأقدم في الكرو)، تلاعبت بإمكانية أن يكون المدفن والوعاء البرنزي احتمالاً متعاصرين تقريباً وأن ريزنر قد يكون ضغط تواتره للمدافن ليتلاءم مع نظريته الليبية. من ثم طرحت افتراضاً يقول بأن المدافن الأولى يمكن في الواقع نسبها إلى المملكة الحديثة المتأخرة أو إلى تاريخ مبكر من مرحلة ما بعد المملكة الحديثة (Kendall 1982: 21-22). تم استخدام تلك الملاحظات فيما بعد من طرف موركوت (Morkot 1991b: 212-216; 1994b: 8-10) لدعم فرضية أن كرونولوجيا المرحلة الانتقالية الثالثة يمكن تقصيرها بحوالي قرنين وأن الفجوة المشهودة في السجل الآثاري النوبي بين نهاية المملكة الحديثة وبداية تواتر مدافن الكرو قد تكون متخيلة (انظر Adams 1964: 108-109). أثار مورتكوت أيضاً (Morkot 1991b: 213; 1994b: 9-10) إمكانية أن تكون مدافن الكرو غير متواترة جميعها – أن بعضها قد يكون منتمياً إلى الفترة التى حكم فيها في النوبة نائب الملك في كوش ( سا- نسوت- ن - كاش) وأخرى إلى فترة لاحقة للأسرة الكوشية الناشئة. طالما أنه حتى الآن يظل ما نعرفه عن الملكية النبتية المبكرة يمكن إعادة تركيبه فقط من خلال فهم صحيح للمادة من الكرو، وطالما أنني قد عقدت الموضوع فيما قمت بكتابته فعلياً، فقد بدا ضرورياً بالنسبة لي تجهيز تركيب جديد متماسك للمادة، بحيث أستكمل المنشورات السابقة وأجعلها أكثر راهنية وأن أحاول وضع السجل بصورة مستقيمة. بوصفي عضواً في طاقم موظفي متحف بوسطن للفنون الجميلة، يبدو أنني في موقع متفرد مقارنة بالباحثين الآخرين يمكنني من النهوض بهذه المهمة، طالما أنني أستطيع أن اتحصل دوماً على كل من سجلات ريزنر الأصلية واللقيا.

كما هو الحال مع أعمال التنقيب الأخرى التى أجراها، جلب ريزنر معه إلى بوسطن ليس فحسب الموضوعات الصالحة للعرض والتي اقتناها بوصفها نصف اللقيا التي هي من نصيب المتحف، لكنه حافظ أيضاً وجلب معه كل لقيا أخرى، مهما كانت غير مهمة، ذلك أنه مع ما يتميز به من دقة وبعد نظر، رأى أن تلك الموضوعات قد تكون ذات قيمة علمية في المستقبل وقد تكون نعمة لأجيال الباحثين القادمين. بالتالي فقد شُحنت كل مواده بالبحر إلى المتحف وأدخلت في مخزنه تحت الأرضي في الفترة بين 1920-1923. في نفس وقت وصولها، خُزنت مواد الكرو مع الكثير من المواد الأخرى من السودان في مواضع مختلفة. لم تك المواد موحدة كما ولم يك الوصول إليها يسيراً. لُفت الموضوعات بحذر في ورق جرائد أو قطن أو حُزمت في قطعة كتان في الميدان، ووضعت في صناديق صغيرة أو كبيرة. الصناديق الصغيرة والكبيرة حملت الترقيم الميداني للموضوعات التى بداخلها، في حالات نادرة رقم المدفن. بالتالي كان الأمر في الأيام الخوالي صعباً من حيث الوصول إلى موضوع محدد ويحتاج لوقت طويل، وواضح أن دنهام كان مضطراً في العديد من الحالات إلى تسجيل وصفه وفهم الموضوعات فقط من نص ريزنر ورسومه وسجلاته للموضوعات، والتي كانت في حالات عاجزة عن أن تبرز قيمة موضوع أو أهميته. الوعاء البرنزي المصري المستورد الذى أشرت إليه أعلاه، تم نشره من قبل دنهام (Dunham 1950: 14, fig 1b)، لكن بدون تبيان الشكل الرائع المرسوم في داخله والذي كان مميزاً للفترة الرعمسية. الرسم المنشور هو تكرار في الواقع لرسم سجّل موضوعات ريزنر. ورغم أن دنهام قد لا يكون تعرف عليه، فإن اعتماده على سجل الموضوعات أفضى في حالات إلى حذف بعض الموضوعات المهمة أو تسجيلها بصورة غير مكتملة وهو ما قد يكون له تأثير بعيد المدى على فهمه الخاص للوقائع.

قبل سنوات مضت شرعت شعبة المصريات بمتحف بوسطن في تنفيذ مشروع لإعادة تنظيم وتحديث القدرات التخزينية. واحد من الأهداف الأربعة الأساسية كان هو تحديد موضع كل الموضوعات من البعثات إلى السودان وأن يتم اختبارها فيزيقياً. لازالت العديد من الموضوعات ملفوفة في لفافاتها الأصلية منذ عشرينات القرن الماضي، وبالطبع لم يتم اختبار العديد منها منذ وصولها إلى بوسطن من الميدان. جُمعت الموضوعات وفق الموقع ووزعت حسب المدفن؛ وضع كل موضوع في كيس بلاستيك شفاف أو صندوق وعُلم بصورة جيدة، ووضعت مجموعة كل مدفن في صندوق كبير خال من الحامض، وأعطى الصندوق علامة مميزة. كما تم "فض الغبار" عن الفخار من أعمال التنقيب وتم التعرف عليه بالطريقة نفسها ووضع هو الآخر في أرفف مُعلمة. الآن فإن أي موضوع من مدافن الكرو يمكن العثور عليه فورياً تقريباً لا كما كان عليه الحال عندما صارع دنهام للتحكم فيها5.

إلى جانب امتلاكي للموضوعات الأصلية لدراستها، فقد توفرت ليَّ فرصة الإطلاع على المادة الهيكلية غير المنشورة من الكرو. كان ريزنر قد لف كل العظام من كل مدفن في قطعة كتان وضعت داخل كيس مربوط جيداً. وضعت تلك الأكياس داخل صناديق. للأسف فإن بعض الأكياس فقدت هُويتها مع مرور الوقت، وعلى الأقل فإن واحدة من العينات المرقمة لا تبدو متطابقة مع وصفها في سجل الموضوعات. صناديق أخرى احتوت عظام لأفراد متعددين، في حالات بأعمار مختلفة وجنس مغاير، و/أو تشمل عظام حيوانات، ما يشير إلى أن جزءاً من المادة من أعمال التنقيب قد اختلط قبل لفه. فوق ذلك فإن بعض عينات العظم قد تبدو غير منتمية لأصحاب المدفن الفعليين، مما يشير إما إلى أن فهمنا لبعض أصحاب المدافن قد يكون خاطئاً أو أن العينات تنتمي إلى عنصر دخيل لاحق. القليل من العينات يبدو أنه يتطابق تحديداً مع الأفراد المتكهن بهم وهى ذات أهمية كبيرة6. أكثر من نصف المادة العظمية من الكرو حولت إلى متحف بيبودي Peabody في جامعة هارفارد خلال الأربعينات من القرن الماضي، ولم يتم التعرف على بعضها من حيث الجنس أو العمر رغم تقرير دنهام (Dunham 1970: 118-19). بمساعدة الدكتور لاين بك، مدير مجموعة العظام  في هارفارد، تمكنت من الحصول على تقييم أكثر راهنية لتاريخها (Beck 1999).

يبدو أنه ولأغراض هذه الورقة لا بد لي من مناقشة كل المادة من أول مجموعة مدافن ما قبل تاريخية ("الجيل الأول" عند ريزنر) إلى مجموعة المدافن التاريخية الأولى ("الجيل 2": لـ بيَّا وزوجاته، عند ريزنر)، وذلك لأكون قادراً على إعادة اختبار آثارية لمجمل الطور التكويني للدولة النبتية كما تعكسها مادة الكرو على أمل الكشف عن روابط بينها، ومعطيات أخرى ذات صلة، وتاريخ مصري معاصر.

في بداية المشروع لم أتوقع أن أجد إلهاماً أساسياً من دفاتر يوميات ريزنر، لكن بمجرد أن بدأت أدهشني أن أكتشف ملاحظات قد تغير إلى حد بعيد وجهة نظرنا التقليدية عن الموقع. كانت هناك تعارضات غريبة، على سبيل المثال، بين ملاحظات ريزنر وتقاريره المنشورة، والتي سمحت بالطبع باستنتاجات بديلة غير تلك التى تم التوصل إليها – بخاصة تلك المتعلقة بتطور معمار المدافن الأسلاف. في هذه الحالة، باستخدام انطباعاته الأولية عن البقايا الآثارية، كما عبر عنها في دفاتر يومياته الميدانية، يمكن للمرء أن يعدل جذرياً نظرية ريزنر المنشورة عن تطور المدفن، والتي تحولت في التقارير فعلياً إلى إفادة عن حقيقة أصبحت فيما بعد مقبولة دون مجادلة من قبل دنهام وكل الذين أعقبوه.

من بين المثير الذى وجدته تعقيبات ريزنر بشأن السمات المعمارية في الكرو التى نقبها ودرسها جزئياً بنهاية موسمه هناك، والتي لم يذكرها هو ولا دنهام في تقاريرهما. كل تلك تجعل الأمر مؤكداً بأن الكرو لم تك فقط موقع جبانة ملكية بل أيضاً موقع مدينة معاصرة مهمة محاطة بجدار. هذه الحقيقة، بالطبع، تغير جذرياً الطريقة التى نظرنا بها إلى منطقة نبتة.

إنني ممتن بصفة خاصة للعديد من الناس الذين أعانوني في تحضير هذه الورقة؛ ليزا هايدورن، التى أعادت دراسة فخار الكرو ووفرت ليس فحسب رسوم رائعة للأواني الخزفية والحجرية من الكرو، لكنها أسهمت بتبصرات عميقة في المادة التى لها تأثيرات بعيدة المدى على فهمنا للعلاقات الخارجية لزعماء الكرو المبكرين (Heidorn 1992 and 1994)؛ لاين بك ومادلين هنكس، اللذين أعادا تحليل المادة الهيكلية من مقابر الكرو حيث وفرت هذه الدراسة معطيات جديدة عن الجنس والعمر للأسلاف (Beck 1999)؛ وديفيد ريب لإنتاجه لإعادةة التركيب بالحاسوب لمقابر الكرو والمنشورة هنا للمرة الأولى؛ وباتريس لينوبل، لإرساله صورة من رسالة على قسم السيد للدكتوراة عن الكرو (Gasmelseed 1982)؛ وبروس تريجر على الكثير من نصائحه المفيدة عبر الهاتف؛ وانريكو فيروريللي والجمعية الجغرافية الوطنية لتمكينهم لي اقتناء الصور الفوتوغرافية الجوية لهذا الموقع في عام 1989 7 .

لدى زيارته الأولى للكرو في 1918، ألحق ريزنر أرقاماً بالسمات القديمة للموقع، تغيرت تلك أو زادت مع بداية أعمال التنقيب وتم تحديد سمات جديدة. أعطى كل الصروح أرقاماً مستهلة بـ "Ku" لتمييزها عن تلك الصروح من كرمة، والتي أشار إليها بالاستهلال "K". في الجبانة الرئيسة، رقم ريزنر كل المدافن ذات الخارطة المربعة بالأرقام الرومانية. بالنسبة لكل المدافن ذات الخارطة المستديرة ("التلية") أعطى ريزنر أرقاماً عربية مسبوقة بالاستهلال "Ku. Tum.". في الورقة الحالية احتفظت بتلك العلامات لكنني حولت كل أرقام ريزنر الرومانية إلى أعداد عربية.

نظام ترقيم ريزنر كانت له تضارباته. خلال مسار أعمال التنقيب، عندما يتم اكتشاف مدافن جديدة واقعة بين تلك المرقمة سلفاً تعاقبياً، ألحق ريزنر بها أرقاماً جديدة (مثلاً Ku. 23 تقع بين Ku. 8 و Ku. 9). عرضياً، يرقم ريزنر مدفناً خارج التواتر، كما هو حال "Ku. 12"، والذي كان ما أسماه بداية فيما يبدو بمجموعة مدافن Ku. 60. ترك هذا فجوة رقمية غير مفسرة بين مدفنين متجاورين كرو 11 وكرو 13. (بعد ذكر كرو 12 الواقع "جنوب" "الوادي الجنوبي"، لم يشر ريزنر مطلقاً إليه مرة ثانية. انظر دفتر يوميات ريزنر، 2 فبراير 1919). عندما يتضح أن مقبرة دائرية هي مدفن مربع، يصبح الرقم Ku. Tum 3 هو Ku. 14. من جانب ثان، فإن الرقم الأصلي للمدفن المربع Ku. 19 تم الاحتفاظ به رغم أن المقبرة أتضح أنها مستديرة.

البنيات الفوقية لكل المدافن، باستثناء الهرمين النبتيين الأخيرين كرو 1 و2، تكاد تكون مدمرة كلياً. إذا أخذنا في االحسبان شكل الأغلبية يكون يسيراً فهم لماذا. حتى عهد شباكو (كرو 15) الذى كان مدفنه تحت الأرضي مقطوعاً كلياً في الصخر ويمكن الوصول إليه فقط عبر سلالم، فإن كل أعضاء الأسرة المبكرين كانوا قد دفنوا في مقابر تقع مباشرة تحت بنية المدفن الفوقية. تلك المباني الفوقية، بمعنى آخر، أدت غرض ليس فقط تعليم المقابر لكن أيضاً إغلاقها وحمايتها. في كل حالة يبدأ فيها نهب الجبانة، يكتشف لصوص المقابر بسرعة أن الوصول إلى المدافن كان ممكناً فقط عن طريق إزالة الأجزاء العليا. لعدم قدرتهم على تمييز المقابر الحفر لفترة الأسلاف عن المدافن ذات السلالم اللاحقة للأسرة الخامسة والعشرين، فإنهم أزالوا كل البنيات الفوقية بلا استثناء. بعد فترة طويلة نقل القرويون الحجارة المفككة لإعادة استخدامها، تاركين في معظم الحالات فقط البقايا الهزيلة على سطح الأرض (Gasmelseed 1982: 114, pl.1).

عرف ريزنر أن المدافن تحولت من خرط أرضية مستديرة، إلى خرط أرضية مستديرة مع معابد صغيرة ملحقة بها وجدران محيطة أشبه بحدوة الحصان، إلى خرط أرضية مربعة مع أضرحة ملحقة مع جدران محيطة مستطيلة. طالما أنه عرف أن الحكام التاريخيين للأسرة الخامسة والعشرين تبنوا الهرم كشكل رسمي للمدفن من، ممارسة سوف تستمر بلا تغيير غالباً على مدى الألفية اللاحقة، فإنه افترض تحولاً للمدفن هنا مر، في السبعة أجيال المفترضة من رب عائلة Ku. Tum. 1 إلى بيَّا، من الدفن التلي إلى المسطبة، إلى الهرم8. كما هو واضح الآن، فإن هذه النظرية لتطور المدفن في الكرو هي غير صحيحة فيما هو محتمل. تشير بينة غير منشورة، سجلها ريزنر نفسه في دفتر يومياته، فيما يبدو إلى أن مدافن الأسلاف قد تكون تحولت، احتمالاً بطريقة مفاجئة للغاية، إلى أهرام صغيرة أو أهرام مدرجة مع قواعد "مساطب" (الشكلان 3-4).

المدفن الأقدم المتعرف عليه عن طريق بينة نقش هو كرو 17، الخاص بـ بيَّا. تعرف ريزنر على أن هذا المدفن سبقته في الموقع ستة عشر مدفناً أقدم، أسماء أصحابها لم يتم الاحتفاظ بها، لكنه يمكن ترتيبها بالتتالي بسبب أشكالها وسماتها الداخلية سريعة التطور. طالما أن المدافن التى اشتركت في سمات مميزة يبدو أنها وجدت متجاورة في ثنائيات أو ثلاثيات، وطالما أنه لاحظ عظام رجال ونساء فيها، فإنه استنتج بأن الستة عشر مدفناً انتمت ليس إلى 16 حاكماً متعاقبين لكن لعدد غير معروف من الحكام، وزوجاتهم، و/أو أعضاء أسرهم. اعتماداً على تحليله للمدافن، والذي يبدو أنه ينتمي إلى ستة أشكال تطورية، اقترح ريزنر تجريبياً بأنه كانت هناك ستة أجيال للحكام قبل بيَّا. سامحاً بعشرين إلى ثلاثين سنة لكل جيل، ومفترضاً بأن بيَّا بدأ عهده حوالي 747 ق.م. قدر أن أقدم مدفن (Ku. Tum. 1) يؤرخ بالفترة بين 890 حتى 860 ق.م. وبما أنه تعرف على أن مدفن بيَّا سبقه مباشرة كرو 8 وكرو 7، فإنه افترض أيضاً أن يكون أصحاب هذين المدفنين هما سلفا بيَّا كاشتا وملكته الرئيسة بيباتما، وهو ما يترك الحكام الخمسة الأوائل غير معروفين.

رغم أن هناك بعض الاختلافات الطفيفة بين تواتر المدافن الذى نشره في الأساس ريزنر في تقاريره المبدئية والذى نشره دنهام بعد ثلاثين سنة لاحقة، فإن قائمة دنهام النهائية تبدو بالفعل مجرد إعادة إنتاج في معظم تفاصيلها لقائمة ريزنر والتي توجد في ملاحظاته غير المنشورة الموجودة حالياً في القسم المصري بمتحف بوسطن للفنون الجميلة. طالما أن كاشتا كان في عشرينات القرن المنصرم معترفاً به باعتباره العضو الأقدم المعروف من الأسرة، فقد حددت قائمة ريزنر الأجيال الستة باعتبارها "الجيل 1" في حين حددت جيل بيَّا (بعانخي) باعتباره "الجيل 2" الأجيال الخمسة المفترضة السابقة كناها ريزنر بـ A حتى E. تمت إعادة تركيب تواتر المدافن كما قدمه وراجعه دنهام كالآتي:
الجيل
التاريخ
المدافن
A
860-840 B.C.
Ku. Turn, 1, 4, 5
B
840-820 B.C.
Ku. Turn. 6, Ku. 19
C
820-800 B.C.
Ku. 13, 14
D
800-780 B.C.
Ku. Turn. Z, Ku. 9, 10, 11
E
780-760 B.C.
Ku. 21, 23
1
760-751 B.C.
Ku. 8 (كاشتا]
2
751-716 B.C.
Ku. 17 (بيَّا),


Ku. 7, 20, 22, 53-55

في حين يبدو لي هذا التقديم لتواتر المدافن صحيح في الأساس فإن تحليل جديد للمادة الآثارية والهيكلية من "الأجيال" المختلفة أفضى إلى تطوير معتبر (انظر خريطتي المدفنين A و B) ويبدو أنه يوفر العديد من المعلومات الجديدة عن شاغلي المقابر وأصحابها، وهو ما آمل أن أنجح في توضيحه. في المناقشة التالية سأستمر في الإشارة إلى "الأجيال"، كما استخدم المصطلح من قبل كل من ريزنر ودنهام، لكنني أشدد على أن "أجيالهما" هي في الأساس أجيال معمارية لا تأخذ بالضرورة في الحسبان المضامين الإنسانية. من جانب، يتضمن استخدامهما للمصطلح – دون أن يعني ذلك – أن كل شكل متعاقب للمدفن يعني جيلاً إنسانياً مختلفاً؛ ومن جانب ثانٍ، يتضمن أن كل حاكم متعاقب كان حرفياً من الجيل الإنساني التالي.الأقرب إلى حد بعيد، كما يقول به حدسي، من التيارات المعبر عنها في الفترة التاريخية الأقدم، أن كل زوج من الحكام المتعاقبين كانا أخوين (أو، كما يمكن أن يكون الحال، أبناء عمومة مباشرين)9 وأن العدد الفعلي للأجيال الحقيقية التى تجلت في تلك المدافن كان أقل. خلافاً لـ ريزنر،يمكننا احتمالاً أن نسمح بإمكانية حدوث تجديدات مهمة في شكل المدفن خلال تلك الأجيال – أو احتمالاً حتى في فترة حكم ملك واحد. تلك المفاهيم ومضامينها بالنسبة لتأريخ المدافن سيتم مناقشتها لاحقاً.

في الصفحات التالية استشهد بيوميات ريزنر للكرو باليوم، بحيث يمكن لكل راغب أن يراجع المخطوط الأصلي الموجود حالياً في مكتبة القسم المصري بمتحف بوسطن للفنون الجميلة. بالمثل أذكر أيضاً الموضوعات وفق ترقيمها الميداني (على سبيل المثال 19-3-146 يفهم على أن سنة التنقيب (1919) - الشهر (مارس) – رقم الموضوع المسجل في ذلك الشهر. الكثير من الموضوعات المذكورة هنا لم يتم نشرها مطلقاً، لكن إشارات لها يمكن أن توجد في السجلات الأصلية للموضوعات، أيضاً في مكاتب القسم المصري بمتحف بوسطن للفنون الجميلة، ويمكن العثور عليها ومراجعتها في مخازن المتحف. كتحذير في المناقشة التالية، على أن أقول الآتي، مثلي مثل دنهام، كان علىَّ أن أكون انتقائياً فيما يتعلق بالموضوعات التى قدمتها وأهملت بالتالي الكثير منها الذى لم يكن يهمني. خلافاً لـ دنهام، كان ضرورياً بالنسبة ليَّ اتخاذ القرار بشأن أي من الموضوعات كانت أصيلة للمدفن وأي منها لم تك كذلك. فالمدافن في الواقع لم تك منهوبة بصورة متكررة فحسب، بل أن موادها كانت في حالات مختلطة إلى حد أنها صارت ميؤس منها – يمكن للمرء القول أنها مختلطة منهجياً. بكلمات أخرى، لا يمكن للمرء أن يكون متأكداً بصورة مطلقة، باستثناء في حالات محددة، بأن موضوعاً معيناً انتمى إلى مدفن بعينه.

افترض ريزنر أن المدفن الأقدم في الكرو كان Ku.Tum. 1 ، والذي لم يك فقط الأقل تعقيداً من حيث الشكل والأكثر خشونة من حيث البناء بل الذى شغل أيضاً الموقع الأساسي في الجبانة – في قمة الهضبة الصغيرة المدورة بين الواديان الشمالي والجنوبي. بالتالي نسبه إلى مؤسس الأسرة (Reisner 1919a: 239, 246; 1920a: 61; 1921: 23-24. ). هذا المدفن ذو الشكل الدائري، بنصف قطر حوالي 7.3 متر، تبعه المدفنان Ku. Tum. 5 and 4، حسب ذلك الترتيب، والذي كان نصف قطره أصغر بقليل (حوالي 70 و 6 متر على التوالي) في حين احتفظ بشكل مشابه واحتلا موقعين أبعد في المنحدر باتجاه الوادي الجنوبي (Dunham 1950: 12-20). بسبب أن تلك المدافن الثلاثة كانت متطابقة تقريباً واحتوت على موضوعات متشابهة، وبسبب كونها اختلفت عن بقية المدافن الأخرى في الموقع، فقد نسبها ريزنر لجيل الأسرة الأول ما قبل التاريخي، الجيل A. فكما افترض كل من ريزنر ودنهام، وكما أكد التحليل الأكثر حداثة فيما يبدو، فإن مجموعة المدافن هذه تؤرخ تحديداً بمنتصف القرن التاسع ق.م. أو بعده بقليل.

وضع شاغلو تلك المقابر في غرف محفورة في الصخر أو فجوات مجوفة في الجوانب الغريبة لقاع حفر عمودية غير عميقة. أظهرت تلك الغرف اتجاهاً يتفاوت من شمال/جنوب إلى شمال شرق/جنوب غرب، وإذا عُد الجثمان المحتفظ به جزئياً في Ku.Tum.2 (والمنسوب هنا للجيل B) نموذجياً، فإن المقبورين دفنوا في وضع مقرفص، وهم يرقدون على جانبهم الأيمن، وتتجه رؤوسهم جنوباً، مع الوجه متجهاً نحو الشرق (Reisner 1919a: 239). وضعت الأجساد، بكلمات أخرى، موازية لمجرى النيل هنا، وهى عادة تظل باقية في تسعة مدافن من العشرة المتبقية (أي، على امتداد خمسة "أجيال"). تتبدل هذه الممارسة نهائياً مع كرو 8 و 7 (أي، "الجيل" السادس، المنتمي لـ كاشتا وزوجته)، عندما يتحول محور غرفة الدفن 90 درجة، بحيث يرقد الجثمان تقريباً شرق/غرب أو في وضع متعامد مع النهر، في توافق مع الممارسة المصرية (Reisner 1919a: 240-41; 1920a: 62; 1921: 25.).

وصف ريزنر في تقاريره المبدئية مدافن الجيل بحسبانها "مدافن تلية". وصف الـ Ku.Tum. 1 بطرق مختلفة بحسبانه "تل ركام بسيط" أو بوصفه "تلاً دائرياً مصنوعاً من الركام". المدافن الأخرى وصفها بأنها "متشابهة" (Reisner 1919a: 239; 1920a: 61; 1921: 24). عرّف المدافن Ku.Tum. 6 and Ku.19 الخاصة بجيله B بوصفها مدافن تلية محسنة، "مغلفة بحجارة" ومحاطة بجدران ذات شكل أشبه بحدوة الحصان. مدفن الكرو التلي 6 ضم ضريحاً. من قراءة ملاحظاته المنشورة، يمكن للمرء افتراض أن مدافن الجيل A كانت تلال أشبه بعدسة العين، تتبعها أخرى، مبنية بطريقة أفضل، مع بعض السمات الإضافية. هكذا كان في الغالب ما استنتجه دنهام، حيث أنه وصف مدافن الجيل بوصفها "تلال حصباء دائرية، ركام منحدر"، واصفاً المدفن التلي كرو 1 مع منظر جانبي محدب في رسم قطاعي بسيط (Dunham 1950: 13, 121-123, fig. 1a, chart I). طالما أن رسماً كهذا لا يظهر بين خرائط ريزنر ورسومه الأصلية الخاصة بالكرو في متحف بوسطن للفنون الجميلة، فإنه من المحتمل أن يكون رسم دنهام مجرد تحقيق افتراضي لملاحظات ريزنر المنشورة.

صورة مختلفة نوعاً ما للمدافن الأقدم تتضح من قراءة دقيقة لدفاتر يوميات ريزنر الميدانية. ففي الثالث من مارس 1919، وصف ريزنر المدفن التلي كرو 1 بأنه مدفن تلي محاط بـ "جدار واجهة مستدير". يشير رسمه في دفتر اليوميات إلى أن المدفن كان في الواقع بناءً دائرياً منخفض الارتفاع، بجوانب منحدرة، مغطى من الخارج بحجر جاف وملئ بالركام. في السادس من مارس، وصف كل من المدفنين التليين كرو 5 و4 بوصفهما يشتملان على "نفس الأطواق الحجرية مثل كرو 1". يصعب تحديد ما إذا كان هذا الطوق الحجري قد وجد أصلاً فقط في قاعدة كل بناء فوقي، كما أفاد ريزنر، أم قبل نهب المدافن وتدميرها، فقد شُيد فعلاً إلى مستوى أعلى. على أساس مقارنة مع مدافن الجيل A، يمكن للمرء أن يفترض  أن الطوق كان أعلى وأن ما يسمى بـ "المدافن التلية" للجيل A لم تك تلالاً ذات شكل أشبه بعدسة العين بل مبان اسطوانية بجوانب عمودية تقريباً، تذكرنا في الأساس بمدافن المجموعة الثالثة النموذجية (Bietak 1968; 1987; Adams 1977: 154-157; Geus 1997: 59-65; Williams 1991: 74). كبينة إضافية لهذا، يمكن للمرء أن يلاحظ أن خريطة ريزنر المنشورة لجبانة الكرو (Reisner 1919a: pl. 5) تمتلك تفصيل مثير لا يظهر على خريطة دنهام اللاحقة (Dunham 1950: map). هنا فإن خريطتي المدفنين التليين كرو 1 و 5 (والمدفن التلي المجاور كرو2 من الجيل B) أشير إليها بخطوط محيطة فردية منقطة دائرية، في حين أن الخطوط المحيطة للمدفن التلي كرو 4، الأخير من الجيل A، أشير إليه بأطواق دائرية منقطة زوجية، وكأنما الأمر للإشارة إلى أنه كان بجدار في الواجهة مبلط بالحجر وأنه اقترب من شكل المدفن التلي كرو 6 و كرو 19 الخاصين بالجيل B.

من بين المدافن الثلاثة الخاصة بالجيل A، فإن المدفن التلي كرو 1 كان الأكثر ثراءً، وهو الذى احتوى على كمية من الخرز الذهبي، بعضها جد كبير وثقيل الوزن جداً، إلى جانب عناصر مجوهرات ذهبية أخرى وبعض قطع من رقائق ذهبية. في حين كانت قلادة محببة ذات شكل أشبه بالجوهرة ذات طبيعة متميزة أصيلة، وكانت خرزة واحدة ذات شكل قلادة "زهرة برية" من النوع المصري النموذجي، مشيرة إلى أن بعض هذه المجوهرات كان بالتأكيد مصري معاد استخدامه، أو مستورد من مصر (Dunham 1950: 14, fig. 1c; Hayes 1959: 360-361; Brovarski et al. 1982: 283). في حين كان المدفن التلي كرو 5 قد نهب كلياً تقريباً، فإن المدفن التلي كرو 4 قد أظهر مرة أخرى بينة دالة على ثراء الأول، محتفظاً بمئات الخرز من الفايانس، والعقيق الأحمر، والذهب. أعطى المدفنان التليان كرو 1 و4 أنواع متطابقة من رؤوس الأسهم الحجرية، والرؤوس من العاج، وأدوات ميكروليتية هلالية الشكل (Kendall 1982: 23-24) وكذلك قطع برونزية. تشير شظايا منسوجات كتانية متآكلة كثيرة في المدفن التلي كرو 1 إلى أن الفرد المقبور هناك قد تم لفه في كفن أو غطي بملاءة؛ ومن عينة صغيرة من هذا الكتان تم اقتناء تاريخ راديوكاربوني. احتوى المدفنان التليان كرو 4 و 5 شظايا نماذج لجرة فخارية قصيرة ذات شكل متميز، والتي لم توجد في أي مدفن لاحق، لكنها، كما سنناقش أدناه، توفر صلة مع جبانة غير متعرف عليها حتى اللحظة، احتمالاً أن تكون معاصرة أو أقدم قليلاً، في دبيرة شرق (Heidorn 1992: fig. 1; 1994: 120; Dunham 1950:20,fig. 46).

إذا أظهرت ترسبات الدفن في تلك المدافن علاقة قرابة قوية، فإن ركامها السطحي أظهر هو الآخر أنماطاً من البينة التى تشير إلى أن وجبات طقوسية تم تقديمها بالقرب من المقبرة من قبل المعزين، إما قبل الدفن أو بعده، وأن الجرار المستخدمة في المراسم تركت في ذات مكان استخدامها. وجدت بقايا جماجم أبقار في ارتباط بالمدفن التلي كرو 1 (تحديداً، سن وبعض العظام المتناثرة)، وشظايا فحم، ومجموعة جوز دوم محترقة. مع تلك كانت هناك شظايا أواني حمراء تتخذ شكل أوعية طعام وطاسات شرب. كأس واحدة، مطابقة لشكل الفخار، صُنعت من البرنز. وجدت القليل من الشظايا المشابهة للأواني الحمراء على الأرض بالقرب من المدفن التلي كرو 5. هذا الطقس الاحتفالي لا بد أنه تزايد حجماً في وقت الدفن في المدفن التلي كرو 4، ذلك أن الفخار الأحمر هنا كان بكميات أكبر وأشد تنوعاً من حيث الشكل، إلى جانب كونه كان أجود من حيث الصنع، الكثير منه مصقول بصورة جيدة. بين الكميات الكبيرة من الشظايا وجدت أوعية نصف كروية يبلغ قطرها 18 سم. وعناصر من جرار كبيرة. ينسب سجل موضوعات ريزنر أيضاً عدداً إضافياً "لمجموعة شقوف" من المادة نفسها. في هذا الخصوص يجدر ملاحظة أنه وفي الأنقاض هنا، كما هو الحال في المدفن التلي كرو 1، وجدت مجموعات أختام جرار طينية غير مزخرفة، مما قد يشير احتمالاً إلى أن الجرار كانت بلا سدادات أثناء الجنازة وتم استهلاك محتوياتها. في الجيل B، أصبحت مثل هذه الترسبات للفخار أكثر تجلياً، بما لا يترك شكاً بأن طقوس الدفن رافقتها احتفالات للمعزين والتي تختتم بالتهشيم المتعمد للجرار المستخدمة. أجري هذا الطقس في الغالب في الجوانب الشرقية للمدافن، حيث أخذت في الظهور في الأجيال القابلة أضرحة.

احتوى المدفنان التليان كرو 1 و 5 تنوع موضوعات مشظاة تم التعرف عليها بوصفها مصرية، بعضها يؤرخ بوضوح بعصر المملكة الحديثة. الأكثر بروزاً الأواني الرائعة من الألباستر المصري. انتمت بعض الشظايا لأمفورا بمقبضين من النوع الكلاسيكي المميز للأسرة الثامنة عشر، في حين يبدو أن أخرى من أقداح، ومن قوارير حجاج، ومن نوع آنية ذات جوانب عمودية. مثل تلك الأواني عادة ما يتم تعريفها كأشكال مميزة للمملكة الحديثة، إلا أن الأخيرة تم تأريخها من قبل بيتري بالأسرة التاسعة عشر حتى الثانية والعشرين (Petrie 1937: pl. X(XV)).

أعطت المدافن، بخاصة المدفن التلي كرو 1، أيضاً العديد من شظايا أواني من الألباستر الأزرق أو الأخضر ذات زخرف ملون أسود، كلها فيما يبدو مصرية ويمكن افتراض تاريخ يرجع للمملكة المصرية الحديثة، رغم أن هيدرون (Heidorn 1994: 115) يشير إلى أمثلة عديدة لموضوعات شبيهة في مصر من محتويات ترجع بوضوح للمرحلة الانتقالية الثالثة. شكلت بعض الشظايا غير المحددة جزءاً من كأس على هيئة زهرة لوتس، بنصف قطر يبلغ 9 سم، وتفتقد الكأس للقاعدة. يبدو أن اللون، والزخرف، والصناعة تشير كلها إلى أن الكأس شكلت جزءاً من طقم مع أقداح شرب نصف كروية تحمل شكلاً ملوناً لرجل مصري حليق الرأس، جالس وهو يحمل كأس على هيئة لوتس، مطابقة من حيث الشكل لتلك الكؤوس التى تنسب عادة لعصر الرعامسة (Kendall 1982: 22 ; Hayes 1959: 405-OG). شظية من قدح آخر عثر عليها في المدفن التلي كرو 5، مع أن الزخرف المرسوم غير مفهوم. تتشابه آنيتان من الفايانس الأخضر من المدفن التلي كرو 1 من حيث الشكل مع آنية حجرية من المدفن التلي كرو 5، والتي وصفناها أعلاه، والتي ترجع مرة أخرى وفقاً لـ بيتري إلى الأسرة التاسعة عشر حتى الثالثة والعشرين.

يلاحظ هيدورن (Heidorn 1992: 4-6; 1994: 119-20) أن بعض شقوف الفخار من تلك المدافن تجد نظائر مصرية لها، وأن شقفين من المدفن التلي كرو 4 صنعتا من طين غني بكربونات الكالسيوم. وبما أنه لم يتم التعرف علي مصادر لهذا النوع من الطين في النوبة، فإنه في الغالب ما تكون مجلوبة من مصر العليا، احتمالاً من منطقة بلاس أو قنا، مشيرة بالتالي بقوة إلى تجارة مباشرة مع طيبة.

تم تسجيل عظام بشرية غير متعرف عليها في المدفن التلي كرو 1، لكنني لم أتمكن من العثور عليها10 (Dunham 1950: 118-119). لم يحتو المدفن التلي كرو 5 على عظام، لكن مجموعة مثيرة تم جمعها من المدفن التلي كرو 4. تمت دراسة تلك المجموعة، المحفوظة حالياً بمتحف بيبودي بجامعة هارفارد، من قبل الدكتورة لين بيك  Lane Beck، مديرة قسم العظام بالمتحف، وذلك أثناء وجودي، وأعلنت بيك أن الهيكل يخص "أنثى" على أساس المدارات الحادة لشظايا الجمجمة. وبما أن غرزات الجمجمة لم تكن مغلقة كلياً، فقد استطاعت بيك أيضاً وصف الفرد كونه بين 15 و 35 سنة من العمر عند الوفاة (Beck 1999: chart). اختلطت مع العظام البشرية فك سفلية لحيوان صغير، والذي تعرف عليه الدكتور ريتشارد ميدو، مدير معمل متحف بيبودي، باعتباره لـ "كلب متوسط الحجم". تشير هذه التحاليل إلى أن المدفن التلي كرو 4 كان مدفناً لامرأة شابة، يمكن أن تكون قد قبرت مع كلب – وهى عادة تجد نظائر لها في المقابر النوبية السابقة واللاحقة (Bonnet et al 1989; Lenoble 1991; Adams 1977: 157; Bonnet 1990: 112, fig 107).

يمكننا أن نخلص، كما فعل ريزنر، إلى أن الثلاثة مدافن للجيل A شكلت مجموعة أسرة أولية ولا بدَّ أن تكون متعاصرة تقريباً. نسبة لأسبقيته وضخامة حجمه فإن المدفن التلي كرو 1 يمكن عده باطمئنان مدفناً خاصاً برجل. وبما أن المدفنين التليين كرو 4 و5 مشابهين لكنهما أصغر حجماً بقليل، وبما أن المدفن اتلي كرو 4 كان مدفناً خاصاً بامرأة، قد يبدو محتملاً انتماء المدفنين لأنثيين، احتمالاً زوجتين متتاليتين – أو احتمالاً أم وزوجة – لشاغل المدفن التلي كرو 1، والذي سوف أسميه، نسبة لغياب اسمه الحقيقي، "الملك A".

يظل غير معروف عما إذا كان أو لم يكن الملك A هو المؤسس الفعلي للأسرة النبتية. لا يمكن للمرء استبعاد إمكانية أن يكون هناك أسلاف حكام سابقين له دفنوا في مكان آخر؛ لكن مظهر قبره في الكرو يبدو أنه علَّم تحولاً سياسياً محلياً مهماً.

إلى حد معرفتي لم يتم حتى الآن إقامة صلة آثارية بين المدافن الأقدم في الكرو والمدافن الأخرى في أماكن أخرى من النوبة، آخذين الفرضية التقليدية بشأن "الفراغ السكاني" العام للمنطقة (Adams 1964: 104-109; Morkot 1991; 1994c)، لكن يوجد تماثل مدهش في النوبة السفلى في دبيرة شرق، والذي تم لفت انتباهي له من قبل ليزا هايدورن. ذلك هو جبانة تم التعرف عليها في الموقع 176، والذي نقبت فيه البعثة الاسكندنافية المشتركة في العام 1962 (Säve-Söderbergh et al. 1989: 200-205, pls. 35-38). وصف المنقبون الجبانة بأنها "استثنائية" و"لا نظير لها لا في منطقة ترخيص البعثة الاسكندنافية المشتركة، ولا في أماكن أخرى من النوبة فيما يبدو". ضم الموقع 105 قبراً تلياً، كلها منهوبة تماماً، لكن كان لها بنيات فوقية مؤلفة من "جدران مستديرة من كتل حجرية ذات أشكال وأحجام مختلفة"، أو، في حالات قليلة، من "طوق حجري بسيط". من حيث نصف القطر فقد تفاوت من 1.5 إلى 8.5 متر. خلافاً لمدافن الكرو، التى شيدت على طبقة صخرية بحيث كانت المقابر منحوتة في الصخر، وبنيت المدافن في الموقع 176 على تربة لينة بحيث كانت حفر المقابر متقابلة بالضرورة وسقفت بألواح حجرية. تظهر المدافن في هذا الجانب تشابهات مع المدافن التلية كرو 2، وكرو 23، وكرو 21. الجثامين التى عثر عليها كانت مقرفصة، إما على جانبها الأيمن أو الأيسر، لكن مع الرأس متجهاً إلى الشرق أو الجنوب الشرقي. غير العادي هو حقيقة أن بعض المدافن كان فيها أضرحة في الجوانب الشرقية التى ظلت محتفظة بأواني فخارية، بعضها تم وصفها باعتبارها قتلت "طقوسياً" – كسرت أو اخترقت بحفر – وهى عادة تذكرنا بما هو مشهود في الكرو على امتداد الأجيالA-C 

وفقاً للمنقبين، فإنه في حين تظهر المباني الفوقية لمدافن الموقع 176 بعض صلة القربى مع كرمة، فإنها اختلفت من مدافن المجموعة الثالثة والمقابر الحفر العادية، وكان وجود المحراب القرابيني أمراً غير عادي. طريقة الدفن المقرفص كانت نوبية أصيلة، لكن أشكال الفخار النوبي لا يمكن إرجاعها إلى أنواع أو أشكال معروفة. في تقريره المبدئي وصف سودربيرج المدافن باعتبارها "خشنة وبربرية للغاية"، مع ذلك "وفرت بعض أروع الموضوعات". احتوت المقابر وفرة من المواد المصرية: قوارير حجيج، وأواني فايانس عالية النوعية، وتعاويذ وخنفسانات، أرخها المنقب كلها بمنتصف الأسرة الثامنة عشر، وهو ما قاد إلى تأريخ المدافن بالمملكة المصرية الحديثة. بإلقاء نظرة عن كثب، على كلٍ، فإن بعض قوارير الحجيج تبدو فعلياً من تاريخ مبكر في الألفية الأولى (Säve-Söderbrgh et al. 1989: 36 and Amiran 1969: 276 : إفادة مباشرة تفضلت بها هايدورن) وليست الموضوعات المصرية بالضرورة، مثلها مثل تلك من الكرو، متعاصرة مع المقابر أو أنها تقليد لاحق لموضوعات المملكة الحديثة (Heidorn 1994: 115, n. 1). في حين قدمت المدافن التلية كرو 1، و5، و4 مواد مصرية مشابهة من الفايانس وشظية من قارورة حجيج حجرية، فإن تلك المدافن كانت وثيقة الصلة بالموقع 176 من حيث وجود نوع متفرد لجرة قصيرة بقاعدة مقعرة – احتمالاً نوع من آنية لحرق البخور مزخرفة في الجوانب بأنماط محفورة وخطوط محفورة بارزة (Heidorn 1994: 120, n. 21, fig. 1, a-c; Säve Söderbergh et al. 1989: 38, 3-4; Dunham 1950: 20, fig 46). ظهرت مثل هذه الأواني في الموقع 176 كما هو الحال في مدافن الجيل لكن لم يتم الكشف عنها في الكرو في أي مدفن لاحق، كما ولم يتم الكشف، حسب معرفتي، عن مثل هذه الأواني في أي مكان آخر. إنها تكاد تكون متطابقة من حيث الشكل والصناعة والزخرف، باستثناء أن تلك من الموقع 176 تبدو إلى حد ما أشد بدائية. يذكرنا زخرفها الأشبة بالجدول مباشرة فخار المقابر الحفر (Bietak 1987: 124). بالتالي ليس هناك شك حول وجود علاقة بين الموقعين، لكن نوع تلك العلاقة يظل غير واضح. يبدو أن تلك المعطيات تقدم الآن بينة دالة على ثقافة نوبية ما بعد المملكة الحديثة غطت ما كان النوبة المحتلة مصرياً سابقاً، على الأقل من شمال الجندل الثاني حتى الجندل الرابع في الجنوب. يحتمل أيضاً أن يكون أولئك هم ذات الناس الذين بنوا نظام الأسوار المركبة في قصر إبريم في المستويات السابقة مباشرة لتلك التى شيدها تهارقا (Horton 1991: 264-65)، والتي أعطت تأريخاً بالكربون المشع14 حوالي 920-800 ق.م. المثير بحق، أنه من تلك الأسوار نفسها أتت رؤوس الأسهم الحجرية المماثلة لتلك من المقابر الأقدم في الكرو (هورتون، إفادة شخصية مباشرة). نفس نوع رؤوس الأسهم وأسنة من العاج تم الكشف عنها في مدينة هابو (Hölscher 1954: 6, pl. 3A)، وهو ما يشير إلى وجود قوات نوبية هناك تم تجنيدها من بين السكان نفسهم – احتمالاً أولئك الذين هاجموا، قبل قرن مضى تحت قيادة نائب الملك في كوش بانحسي، المركب في عهد رمسيس الحادي عشر11 (Wente 1966: 84-85). يبدو أن المنطقة بين دبيرة شرق والكرو، حيث تم تجنيد قوات نوبية مرتزقة في عهد المملكة الوسطى، قد قدمت قوات مرتزقة لمصر في عهد الأسرة الثانية والعشرين.



الهوامش
(1) رغم أنني (Kendall 1992) اقترحت أساساً ستة حكام أسلاف، فإن التحليل اللاحق يشير إلى أن عدد الحكام – والأزواج الملكيين–  السابقين لـ بيَّا  يمكن مراجعتهم إلى سبعة للأسباب الموضحة في الهامش 28. انظر أيضاً Kendall 1999: 172
(2) إذا كانت الأجيال السبعة لنسب أسبالتا النسائي يتطابق مع عدد مماثل لأجيال الحكام الذكور، كما يشير إلى ذلك بريزا (Priese 1972: 23) وموركوت (Morkot 1991b: 210-11)، فإن السلف النسائي الأول المذكورة في المسلة ستكون منتمية للجيل الثاني السابق لـ آلارا. ركب توروك (in Edie et al. 1994: 249-51) نظرية تشير إلى أن نسب أسبالتا عن طريق سلفه النسوي يرجع فقط إلى جدة تهارقا، والتى كانت أختاً لـ آلارا. للأسف فإنه ولكون أسماء أولئك السيدات لم يحتفظ بها، فإن الوصول إلى حل حاسم أمر يستحيل.
(3) انظر Reisner 1918a: 80; 1919a: 246-47; 1919b: 43; 1923: 12,22
(4) حرفياً لأعضاء شعبة المصريات بمتحف بوسطن للفنون الجميلة بما فيهم شخصي.
(5) مشروع المخزن تحت الأرضي تم تصميمه وتنفيذه وفق رؤية بيتر لاكوفارا الذى عمل على مدى سنوات بمساعدة العديد من أعضاء طقم موظفي المتحف والمتطوعين: بخاصة كل من ريما بولوس، وبراين كوران، ومارجوري كوين، ونانسي دووف،وجويس هاينز، وجابي بيكي، وجينيفر كرامر، وكاتيا ليهمان، وجواني ماركوف، وكارا سوليفان، وتريسكا كول، ومج روبينس، ونانسي مولدون، وديفيد فوستر، ويوفوني بوبو، ومارجريت ليفيك، وليزا هايدورن. انظر Kendall 1994b: 235-36
(6) بعد أن تم نشر هذه الورقة، قامت عالمة التشريح  الدكتورة مادلين هنكس بدراسة حذرة للمادة العظمية من الكرو الموجود في متحف بوسطن للفنون الجميلة. النتائج المثيرة لدراستها ملحقة بهذه الورقة.
(7) بالنسبة للصورة النهائية لهذه الورقة، أود أيضاً أن أشكر، بداية مادلين هنكس لسماحها لي باستخدام تحليلها لمادة الكرو الهيكلية في متحف بوسطن، ومن ثم لازلو توروك، وروبرت موركوت، وكارولا زيبيلوس-شن، وجانيس يلين، والذين ساعدتني أبحاثهم المنشورة منذ 1992 في تحديث وتطوير تفكيري حول العديد من الموضوعات.
(8) Reisner 1919a: 239-242; 1920a: 62; 1921: 24-25; Dunham 1950: 121-123
(9) Morkot 1992: 9-15=1999: 188-192; Torok 1992c: 5=1999a: 276; and in Eide et al. 1994: 41-42, 131
(10) انظر الملاحظات في الملحق تحت العينة 12، ويمكن أن تكون تلك هى العظام المعنية: "كيس يحتوي جمجمة رجل مهشمة".
(11) يلفت زيبيلوس شن (Zibelius-Chen 1994: 14) الانتباه إلى حقيقة أن رؤوس أسهم حجرية مماثلة تم الكشف عنها أيضاً في القناطر، ويرجع تاريخها إلى الأسرة التاسعة عشر، ويتشكك فيما إذا كان من الممكن استخدامها بثقة للاشارة إلى وجود سكان نوبيين.

مراجع
Adams W.Y. 1964, Post-Pharaonic Nubia in the Light of Archaeology. I. JE4 50: 102-120
Adams W.Y. 1977, Nubia. Corridor to Africa. London
Amiran, R. 1963, Ancient Pottery o/"the Holy Land, from its Beginnings in the Neolithic Period to the End of the Iron Age. Israel
Arkell A.J. 1955, A History of the Sudan,frorn the Earliest Times to 1821. London
Beck, L. 1999, Demographic Data from Human Skeletons Recorded from El Kurm. rbleroitica 25: 160-163
Bietak, M. 1968Studien zur Chronologie der Nubischen C-Grtcppe: Ein Beitrag zur Friih­geschichte Unternubiens zwischen 2200 und ISSO vor Chr. Osterreichische Akademie der Wissenschaften. Philosophisch-historische Klasse. Denk­schriften 97: Berichte des Osterreichischen Nationalkomitees der UNESCO­Aktion fur die Rettung der Nubischen Altertumer 5. Wien
Bietak M. 1987, The C-Group and the Pan-Grave Culture in Nubia. In: Th. Hagg (Hrsg.), Nubian Culture Past and Present: Main Papers Presented at the Sixth Interna­tional Conference ,for Nubian Studies in Uppsala, 11-1G August, 1986. Stockholm: 113-128
Bonnet Ch. 1990, (ed.), Kerma: Royaume de Nubie. alusee d'art et d'histoire. Geneva
1991     Upper Nubia from 3000-1000 BC. In: W V Daaies (ed.), Egypt and Africa: Nubia from Prehistory to Islam London: 112-117
Bonnet, Ch. et a1. 1989, Sepultures a chiens sacrificies clans la vallee du Nil. CRIPEL 11: 25-39
Brovarski, E. et al. (eds.) 1982Egypt's Golden Age: The An of Living in the New Kingdom. 1558-1085 B.C. Museum of Fine Arts. Boston
Dixon, D.M. 1964, The Origin of the Kingdom of Kush (Napata-Meroe). JEA 50 121-132
1946     Notes on the History of Kush, 850 B.C.-A.D. 350. AJA 50 378-388
Dunham, D. 1950, The Royal Cemeteries ofKush L El-Kurru. Boston
Dunham D. 1970The Barkal Temples. Boston
Gasmelseed, A.A. 1982L'importance archeologique et bistorzque du cimetiere cf'el Kurru. These pour le doctorat de 3e cycle: Universit6 de Paris-Sorbonne, Paris IV. Paris
Geus, F. 1997, Burial Customs in the Upper Main Nile: An Overview. In: W. V Davies (ed.), Egypt arid Africa: Nubia, f irom Prehistory to Islam. London: 57-73
Hakem, A.M.A. 1988Meroitic Architecture: A Background of an African Civilization. Khartoum
Hayes, W. 1959The Scepter of Egypt: A Background for the Study of the Egyptian Antiquities in the Metropolitan Museum of Art, Part IT The Hyksos Period and the New Kingdom (ZG75-1080B.C.). New York
Heidorn L. 1992, Preliminary Analysis of Selected Vessels From the Earliest Tombs at El-Kurru (Generations A-F) Seventh International Conference for Meroitic Studies, Humboldt Universitat zu Berlin. Preprint of Papers. Berlin
Heidorn L. 1994, Historical Implications of the Pottery from the Earliest Tombs at El-Kurru. JARCE 31: 115-131
Holscher U. 1954, Excavations atMedinetHabu V Post-RamessidRcmains. Chicago
Horton, M. 1991, Africa in Egypt: New Evidence from Qasr Ibrim. In: W V Davies (ed.), Egypt and Africa: Nubia from Prehistory to Islam. London: 264-277
Kendall T. 1982, Cush: Lost Kingdom of the Nile. Brockton
Lenoble, P. 1991, Chiens de paiens: Une tombe postpyramidale a double descenderie hors de Meroe. ANYIS: 167-183
Macadam, M.L. 1949The Temples of Kawa L- The Inscriptions. 2 vols. Oxford University Excavations in Nubia London
Macadam, M.L.1955The Temples of Kawa IT History and Archaeology of the Site. 2 vols. Oxford University Excavations in Nubia. London
Morkot R. 1991, Nubia in the New Kingdom: The Limits of Egyptian Control. In: W. V. Davies (ed.), F.gypt andAfrica: Nubia from Prehistory to Islam. London: 294-301
Morkot R. 1991b, The Empty Years of Nubian History. In: P. James (ed.), Centuries of Darkness .4 Challenge to the Conventional Chronology of Old World Archaeology. London: 204-219
Morkot R. 1994b, The Foundations of the Kushite State. A Response to the Paper of Laszlo Torok. In: F. Geus (ed.), Nubia Thirty Years Later. Lille: 1-18
Morkot R. 1994c, The Nubian Dark Age. In: Ch. Bonnet, ed. E'tudes nubi.ennes Conference de Geneve. Actos du VIIe Cori gres international d'etudes nubicnnes 3-8s eptembre 1990. 11. Geneva. 45-47
Petrie, W.M.FI. 1937Funeral Furniture and Stone Vases. London
Reisner G.A 1919a, Discovery of the Tombs of the Egyptian X{Vth Dynasty at El-Kurruw in Don­gola Province. SNR 2: 237-254
Reisner G.A. 1919b, Outline of the Ancient History of the Sudan. SNR 2: 35-G7
Reisner G.A. 1920aNotes of the Harvard-Boston Excavations at El-Kurmw and Barkal in 1918-19. JEA G G1-G4
Reisner G.A. 1921,  The Royal Family of Ethiopia. Bulletin oftheMuseum ofFineArts 19,112-113
Ritner R.K. 1993, TheMechanics ofAncient Egyptian Magical Practice. Chicago
Save-Soderbergh 1963, 'Preliminary Report of the Scandinavian Joint Expedition'. Kush 9: 47-G9.
Säve-Söderbergh, T. et al. 1989Middle Nubian Sites. The Scandinavian Joint Expedition to Sudanese Nubia IV. Stockholm
Simpson, W.K. and Davis, W. (eds.) 1981Studies in Ancient Egypt, the Aegean, and the Sudan. Studies in Honour of Dows Dunham. Boston
Wente E.F. 1966, The Suppression of the High Priest Amenhotep. JNES25: 73-87
Williams, B. 1991, A Prospectus for Exploring the Historical Essence of Ancient Nubia. In: WV Davies (ed.), F.,caypt and Africa: Nubia from Prehistory to Islam. London: 74-91




هناك تعليق واحد: