الأربعاء، 15 مارس 2017

ملاحظات حول الزخرف الكنسي النوبي

أركامانى مجلة الآثار والأنثروبولوجيا الســـودانية
مجلة الآثار السودانية/ العدد السابع /ديسمبر/2005








ملاحظات حول الزخرف الكنسي النوبي
كاريل انيمي
ترجمة أسامة عبدالرحمن النور











لازلنا بعيدين حتى اللحظة من تقديم إجابة نهائية عن لماذا زخرف النوبيون كنائسهم بالطريقة التى فعلوها. رغم أننا نمتلك الكثير من البينة، فإن معظم الزخرف الكنسي وصل إلينا بشكل مشظى. حتى الآن فإن كثدرائية فرس توفر المثال الأكثر اكتمالاً ونتيجة ذلك فقد هيمنت لوحات فرس على ساحة الجدل الدائر حول الفن الجداري النوبي. ليس ذلك بلا مبرر حيث أن الكثدرائية قدمت لنا أكبر كمية حتى الآن للرسوم الجدارية. لكن في جوانب عديدة علينا أن نسأل أنفسنا عما إذا كانت كثدرائية فرس، لوضعيتها هذه، النموذج الممثل للفن الجداري النوبي ككل. تسمح لنا التماثلات بين كنائس مثل فرس، وسونقي، وتينو، وعبدالله نرقي برسم خطوط عامة في التطورات الأسلوبية، حتى وإن أظهرت بعض اللوحات "القروية" معنىً وايقونيةً خاصين (1). مع ذلك يصعب علينا تجنب الأخذ في الحسبان البينة من فرس في دراسة تتناول الرسم النوبي.

يبدو حالياً أن الخطوط الأساسية للتطور الأسلوبي في الرسم الجداري النوبي قد تم تثبيتها. لكن عندما يتعلق الأمر بالايقونية فإن الوضع يظل أشد تعقيداً. التطور في الأسلوب من الممكن استنتاجه عن طريق مقارنة رسوم منفردة في ترتيبها الكرونولوجى النسبي. في حين أن التحليل الايقوني، من جانب ثانٍ، ليس مجرد تفسير لرسوم منعزلة. بمجرد تثبيت أهمية موضوع رسم جداري وايقونيته، فإن الخطوة التالية تصبح البحث عن معناه في المحتوى الأوسع لزخرف الكنيسة في مجمله. لا يزال هذا السؤال تحديداً بلا إجابة إلى حد بعيد : هل نُفذ زخرف الكنائس النوبية طبق خطة موضوعة مُسبقاً وعن عمد، وإذا كان الأمر كذلك، كيف يمكن التعرف على تلك الخطط؟ لا تسعى هذه الورقة إلى الإجابة عن هذا السؤال، فقد قُصد منها إسهاماً في المناقشة المستمرة لهذا الموضوع.

يبدو من الوهلة الأولى أنه لا يوجد سوى تركيب محدود في زخرف معظم الكنائس النوبية. ليس هناك نموذج كنيسة زينت جدرانها بمناظر قصة متواترة أو أن يكون فنان أو مجموعة فنانين قام/قاموا بزخرفة كنيسة خلال فترة زمنية محدودة وفق خطة يمكن تتبعها. قد يقود هذا بسهولة للاستنتاج بأن الكنائس النوبية قد زخرفت بطريقة تدريجية عضوية، وصولاً إلى نتيجة. قد يصدق ذلك على أوضاع عدة، لكن في إطار العرض غير المنظم ظاهرياً للرسوم يمكن الكشف عن بعض النقاط المحددة، غض النظر عن كونها أقل مما نتوقع.

قبل الالتفات إلى الرسوم نفسها من الضروري التمييز بين عدة جوانب في الرسم الديني، حتى وإن لم يكن هناك ضمان بكون تلك الاختلافات بصورتها هذه قد عرفها الفنانون والمؤمنون النوبيون.

- في فن الفترة القديمة المتأخرة يمكن التعرف على تصوير إنسان في الكثير من الحالات كـ "نائب عن"، بمعنى أن التصوير يخدم بديلاً لوجود الشخص المصور. يمكن أن ينطبق ذلك على كل من تصوير الأحياء (صور الإمبراطور والمتنفذين الآخرين)، والأموات (الأسلاف) وعلى المعبودات والقديسين (صور العبادة). في حالة صور المعبودات، والقديسين والإمبراطور يكون الهدف المهم هو تبجيل تلك الصور علامةً على احترام أو عبادة الواحد المرسوم. كما أبان ارنست كايسنجر، أخذت عبادة الصور تجد تقبلاً وتم تقنينها في المسيحية البيزنطية بين القرن السادس وفترة تحطيم التماثيل الدينية (2).
- فئة ثانية تتألف من مناظر يصور فيها حدث أو فعل. سيكون من التبسيط استخدام مصطلح "رواية أو قصة"، طالما أن هدف التصوير يمكن أن يكون أكثر من مجرد  تدليل أو رواية لحدث. مثل تلك المناظر نادرة إلى حد ما في الرسم النوبي. معروفة بضعة صور لميلاد المسيح، والشباب في الفرن الملتهب، ومناظر مثل المسيح وثوماس (فرس a87)، وسلسلة آلام المسيح.
- في حين أن الرسوم المشار إليها أعلاه هي طبيعية إلى هذا الحد أو ذاك، فإن مناظر أخرى يمكن استخدامها لتصوير فكرة أو مفهوم لاهوتي. المثال الأفضل لذلك الرسم المتكرر للصليب على الجدران بطرق مختلفة. جوانب تجلي الله للإنسان والاعتقاد في العالم الآخر موجودة في عدد من المناظر (3).

الجوانب الثلاثة تلك تنطبق على شكل الرسم، لا على وظيفته أو المعنى الملصق به. عندما يتعلق الأمر بهذا علينا أن نميز بين على الأقل فئات مختلفة من الرسوم :
* تلك المرسومة بمكان محدد للغاية لوجود ارتباط مباشر بين الموضوع والوظيفة أو رمزية المعمار.
* تلك التى يصور فيها الشخص أو المنظر لأسباب تكريس، بدون أي ارتباط مباشر بالمعمار.

فقط في عدد محدود من الحالات يمكننا أن نقيم صلة بين بعض الموضوعات الايقونية والمكان في الكنيسة. المثال الأبرز تجلياً لهذا هو بالطبع تركيب الجزء الناتئ (نصف الدائري) في الكنيسة: يمثل منظر المسيح في جلاله، مع أو بدون المخلوقات الخاصة بالرؤية ومع أو بدون العذراء، محاطاً بالحورايين في منطقة أسفل، المنظر غير المنازع بالنسبة لزخرف الجزء الناتئ في منطقة النيل (4).

فوق ذلك هناك منظر ميلاد المسيح، والذي نجده في عدد من الكنائس النوبية (مثل فرس، وعبدالقادر، وعبدالله نرقي) مرسومة في الركن الشمال - شرقي للكنيسة، احتمالاً لوجود صلة بقداس تجهيز الخبز للعشاء الرباني. الصلة الفعلية، على أية حال، تظل غير مؤكدة؛ في سونقي تينو رسم المنظر نفسه في الرواق في الجانب الجنوبي للكنيسة.

صُورَّ الملائكة في مداخل الكنائس بوصفهم حراساً للأبواب. مثال جيد لهذا يتجسد في الملائكة المحيطين بالمدخل إلى صحن الكنيسة في فرس (inv. 98,99).

حتى في حالات منعزلة هناك أحياناً إمكانية ربط منظر ايقوني بجزء محدد من المعمار، كما في سونقي تينو حيث صُور القديس ستيفان والقديس جون المعمداني في الأبرشية الجنوبية، المستخدم في النوبة بيتاً للمعمودية (أي مبنى يجرى فيه التعميد - أسامة). ويحتمل أن يكون قد ارتبط كذلك بمهام شماسي الكنيسة (5).

في معظم الحالات نجد أن موضوع التصوير ليس مرتبطاً بما لا فكاك منه مع المكان في مبنى الكنيسة. إذا قمنا بعملية إحصاء للموضوعات والأماكن المرتبطة بها، فإن الحالات المشار إليها واحتمالاً حالات أخرى قد تبدو، أنها تمثل نسبة صغيرة. نسبة أكبر من الرسوم الجدارية النوبية مكرسة لتصوير الملائكة، ومريم العذراء، والصليب، والمبجلة تبجيلاً عالياً في مسيحية النوبة. وكما هو الحال في إحدى الأيقونات، فإن التبجيل علاقة متبادلة بين المؤمن وواحد من المرسومين، بدون الاعتماد على مكان محدد. خلافاً لتلك الموضوعات، نجد فئة أخرى للرسوم "النيابية"، تمثل أساقفة، وأعضاء الأسرة الحاكمة، ورؤساء أبرشيات.

الايقونية التصويرية في فرس في القرن الميلادي الثامن
تغطي الرسوم من كثدرائية فرس أكثر من خمسة قرون. سيكون من اليسير افتراض أن يكون مفهوم زخرفة الكنيسة قد ظل كما هو عليه خلال هذا الامتداد الزمني. لهذا السبب علينا أن نحاول دراسة كل طبقة من الرسم أو مجموعة رسوم متعاصرة بهذا القدر أو ذاك كل على حدة. تتألف الأولى التى يمكننا تمييزها كمجموعة متجانسة بهذا القدر أو ذاك من رسوم القرن الثامن التى يشار إليها عادة بـ "أسلوب زهرة البنفسج"(6). رغم أنها من حيث الأسلوب قد تكون متجانسة، فإن خطة ايقونية لا تبدو واضحة من الوهلة الأولى. في المجاز المؤدي إلى صحن الكنيسة وحول المدخل إلى السلم نجد العديد من رسوم الملائكة كبوابين، ورسم ميلاد المسيح في الجزء الناتئ بالصالة الشمالية وهى ظاهرة تعد عاديةً، لكن أكثر من ذلك لا يبدو سوى القليل من التخطيط (7). يجب ألا يشكل ذلك مصدراً للدهشة. لازالت بداية القرن الثامن تعد فترة ذات دلالة في الرسم النوبي، فترة تطابق مع تحطيم التماثيل في بيزنطة. في هذا الوقت نجد تأثيراً واضحاً، طبقاً لما لاحظه كورت فيتزمان، من الأسلوب والايقونية القبطية. كما لاحظ فيتزمان أيضاً غياب تماسك بين العديد من الرسوم، وفسر ذلك بالطبيعة شبه الايقونية للرسوم، بحيث أن كل رسم يبدو صورة تكريسية منفردة غير مرتبط بالرسم المجاور له (8). هذا بالتحديد الانطباع الذى يتملكنا إذا تخيلنا أنفسنا نقف في كثدرائية من القرن الثامن (9). الطبيعة التكريسية للعديد من الرسوم في فرس تتجلى من خلال بقع السخام، التى خلفتها المصابيح المتقدة أمامها. في الغرف الجانبية، غير المفتوحة لجمهور المتعبدين، لم يتم تنفيذ رسوم. الطبيعة التكريسية لا تنطبق فقط على المناظر "الايقونية" للقديسين، لكن أيضاً لمنظر أكثر "قصصية" مثل الشبان في الموقد المتقد. النموذجان الأخيران وجدا ليس فحسب في رسم القرن الثامن، بل أيضاً في كثدرائية فرس بالقرب من الأبواب والسلالم، الأمكنة التى تمركزت بها الصور الأخرى للملائكة (بخاصة ميخائيل) وارتبطت في الظاهر مع التبجيل للملاك. يعطي وضع الأشكال في المقدمة تصوير هذا الموضوع طبيعة "ايقونية" أكثر منها "قصصية".

ظلت رسوم القرن الثامن لا تقدم صوراً لشخصيات نوبية متنفذة.

القرنان التاسع والعاشر
حدث التغير الأول في هذه الطبيعة للرسوم في منتصف القرن التاسع (والذى وصف بانتقال الأسلوب بين البنفسجي والأبيض) : رسم في الجدار الشمالي، في الجزء الشرقي  منظر حماية يصور ملكةً وميخائيل. في الفترة نفسها تم تصوير الأسقفين النوبيين الأولين(10).

مع بداية عهد الأسقف كيروس واعتلاء جيورجيوس الأول للعرش  (كلاهما حوالي 866) يبدو أن التغيرات استمرت. حدث انتقال إلى أسلوب الرسم الذى نطلق عليه الأسلوب الأبيض. نجد لوحة كيروس فيما يسمى بالكنيسة الصغيرة الجنوبية. بعد مدة ليست بالطويلة، بنهاية القرن، يبدو أن الجدران الداخلية أعيد كساءها بالجص، باستثناء الجزء الناتئ شبه الدائري في الكنيسة. سبب التجديد غير واضح بصورة كاملة. ظلت أجزاء كبيرة غير مزخرفة تاركة مجالاً للمزيد من الإضافات. قطعاً لم يك نقص المساحة هو ما دفع جيورجيوس الأول إضافة صورته لمركب الجزء الناتئ. يبدو أنه ببساطة اختار المكان الأكثر بروزاً، تحت اليدين الحاميتين للعذراء، مع المسيح في جلاله فوق رأسه. وضعت الايقونية الجديدة لمنظر الحماية الملكي هنا بدرجة تفضيلية. شخص يمتلك الشجاعة الكافية لتنفيذ مثل هذه الإضافة يمكن عده طموحاً بما يكفي لتخطيط إعادة زخرفة الكثدرائية، مزيلاً النظام غير الرسمي للإضافة التدريجية لرسومات ايقونية فردية. مع ذلك، فإنه وبعد إعادة الكساء بالجص بدء مجدداً في إضافة نظام الرسوم التدريجي، لكن هذه المرة فقط في الغرف الجانبية للكنيسة بصورة أساسية، كما لو أن صحن الكنيسة وأجنحتها الجانبية بقيت تنتظر إعادة زخرفة لم يتم تنفيذها أبداً. في العقد الثالث من القرن العاشر تم تدمير الكنيسة بفعل حريق وبعد فترة طويلة بدأت عملية الرسم في أعقاب إعادة تشييد الكنيسة. لكن غض النظر عما إذا كانت إعادة الكساء بالجص تمهيداً لزخرف ايقوني مخطط قد تمت في عهد كيروس وجيورجيوس الأول، فإن نهاية القرن التاسع كانت فيما يبدو نقطة تحول، ليس فقط في رسوم فرس. كانت سفارة (كيركي) التى بعثها جيورجيوس إلى بغداد في عام 836 هى الأهم في وضع المقرة الدولي والتقدير الذاتي السياسي (11). ازدهرت النوبة في عهد جيورجيوس الطويل في المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية.

مناظر الحماية
تصبح الثقة الذاتية للأسرة النوبية الحاكمة أشد تجلياً في ايقونية الزخارف الكنسية: صور الملوك، وأسرهم، والأبارشة. رغم أن نظام الإضافة التدريجي للرسوم استمر في القرن الحادي عشر وما بعده، فإن الرسوم تبدو جزءاً من النظام. لا يمكننا مجرد مقارنتها بمناظر الحماية المشهورة في كنيسة هاجيوس ديمتريوس في سالونيكا. لا يصور المتبرعون الفرديون أبداً بالقدر من البروز مثل الأساقفة وأعضاء الأسرة الملكية في النوبة. الواقع أن ذلك يذكرنا بتصوير عملية التتويج البيزنطية، الهدف منها التعبير عن الطبيعة المقدسة للمنصب الإمبراطوري. صورة الملك في الكنيسة النوبية تعبر هى الأخرى عن قدسية سلطة الملك. فعل جيورجيوس ذلك عن طريق إضافة صورته في وسط الجزء الناتئ، وتُظهر رسوم لاحقة الملك في قبالة الجزء الناتئ. هكذا الحال في كنائس سونقي تينو(12) وعبدالقادر(13) وفرس، ليس فحسب في الكثدرائية(14)، لكن أيضاً فيما يسمى بقاعة الأسقف، حيث صُور جيورجيوس الثاني تحميه العذراء والمسيح الطفل، في مقابلة المسيح في الجزء الناتئ الشرقي(15). اختيار تلك المواقع للرسوم يصعب عده مصادفة. لا يمكننا أن نفترض أي تأثير غربي، لكن تلك الرسوم تذكرنا بقوة بالكنائس القروسطية الغرب أوربية، حيث يؤثث الجزء الناتئ الغربي للتاج الملكي. يبدو أن الملوك النوبيين صوروا بوصفهم النظير الأرضي للملك السماوي. بالتالي يمكننا أن نفسر إشارة الحماية، ليس فقط في الصور الملكية، لكن أيضاً في صور الأساقفة بوصفها تقنيناً لوضعهم. تُظهر معظم مناظر الحماية، والتى نُفذت للمرة الأولى في القرن الثاني عشر، الشكلين النصفيين للمسيح والعذراء، إلى جانب كتفيّ الحامي. الأبرش في الجزء الناتئ في فرس والأسقف جيورجيوس تم رسمهما بهذه الطريقة(16). يذكرنا هذا التركيب بالطريقة التى صور بها عادة القديس نيكولاس في الايقونية البيزنطية، مع العذراء والمسيح إلى جانبه في هيئة شكلين نصفيين يقدمان له الانجيل، علامة منصبه الأسقفي(17). في كل الحالات الثلاث تقوم العذراء والمسيح بوظيفة السلطات المقننة للشخص المحمي.

العناصر البيزنطية في الايقونية النوبية
لا يمكن إنكار قدر من التأثير البيزنطي على الثقافة النوبية(18). بدءاً من القرن العاشر وما بعده نجد أن هذا التأثير تزداد قوته، أيضاً في الايقونية الدينية.

في القرن السادس وبداية السابع، عندما كانت الممالك النوبية حديثة عهد باعتناق المسيحية، كانت مصر في الظاهر قادرة على أن تكون مصدراً للتحفيز لجيرانها الجنوبيين. تبدل هذا الوضع بالتدريج بعد توحيد المقرة ونوباديا والفتح العربي لمصر. مع ذلك نلمس تأثيراً قبطياً على النوبة حتى القرن التاسع. لكن ومع تطور الثقافة المسيحية في المملكة النوبية المتحدة واعتراف الكنيسة القبطية في مصر بخضوعها للحكام المسلمين، فإن مصر أخذت في فقدان جاذبيتها نموذجاً. كان القرن الثامن المتأخر والقرن التاسع فترة ازدهار بالنسبة للنوبة وفترة اضطراب سياسي متزايد بالنسبة لمصر. في القرن التاسع أصبحت بيزنطة مصدر الهام جديد للمقرة. تمت استعارة الرموز والتعبيرات الخاصة بالسلطتين الدنيوية والدينية من الفن والبروتوكول البيزنطي كما وجدت طريقها إلى الايقونية. أضحى المفهوم العام للدولة المسيحية، التى يحكمها ملك بصلاحيات دنيوية ودينية، سمة مشتركة بالنسبة لكل من المقرة وبيزنطة، في حين تم فصل الكنيسة عن الدولة في مصر بصورة نهائية.

تمثل الأزياء وسيلة من وسائل التعبير عن التراتب والسلطة. فيما يتعلق بالأزياء الدينية اتبعت النوبة الموضة البيزنطية عن قرب، إلى الدرجة أن التطورات الجديدة صورت في النوبة في وقت أسبق منه في القسطنطينة (19). تم تقليد الألقاب والأزياء في البلاط النوبي نقلاً عن البلاط البيزنطي. يرتدى جيورجيوس الأول، كما يظهر في الجزء الناتئ في كثدرائية فرس، زياً يذكرنا بالزي الإمبراطوري البيزنطي للقرن السادس. لا يلبس تاجاً، احتمالاً كون ذلك عد غير مناسباً في محتوى مركب الجزء الناتئ (رغم أنه في أزمان لاحقة فإن الأبرش الذى أضيف إلى الرسم صور وهو يضع تاجه المميز).

من بين رموز السلطة، المأخوذة فيما يبدو من بيزنطة نجد نوعاً خاصاً من التاج المعروف باسم كاملاوكي Kamelaukian. في ثلاث لوحات من بين حوالي 1000 من فرس نجد غطاء الرأس هذا. هذا النوع من التاج، في شكله المتأخر الأكثر شبهاً بالكروي، تم ادخاله عن طريق الكسيوس كومنينوس تاجاً إمبراطورياً رسمياً، لكنه كان قد وجد في هيئة أقدم، تتوافق مع التيجان التى ارتداها جورجيوس الثاني في اللوحة الجدارية في صالة الأسقف، والعذراء في منظر الحماية للملكة مارثا (20) والعذراء المتوجة (21).

يذكر كونستانتينوس السابع (913 - 959) الكاملاوكي عدة مرات. في عمله "الاحتفالات" يذكر كيف أن هرقل قام في عام 638 بتتويج ابنه هرقلنوس بعد إزاحة الكاملاوكي، غطاء رأس القيصر، من رأسه (22).  وفي عمله "الإدارة الإمبراطورية" يلمح الكاتب نفسه إلى استخدام الكاملاوكي خارج الإمبراطورية البيزنطية خلال القرن العاشر. ويكتب قائلاً بأن غطاء الرأس يجب أن يختصر على البلاط البيزنطي فقط/ مسدياً نصيحة لابنه رامون الثاني أن يرفض تقديم الكاملاوكي هدية لملوك البرابرة الشماليين (23). هنالك بالطبع بينة تشير إلى أن الملوك الأجانب قلدوا رموز وشعارات الملكية البيزنطية، بما في ذلك استخدام الكاملاوكي. فالملوك البلغار، والروس، والنورمانديين صوروا وهم يرتدونها. في الفقرة نفسها يذكر كونستانتين بوفيروجنيتوس أن كاملاوكي ، قُدمّ لقسطنطين الأكبر من قبل ملاك احتفظ به تاجاً نذرياً في كنيسة هاجيا صوفيا في قسطنطينة، سوياً مع الرموز والشعارات الملكية الأخرى. هذا "الأصل المقدس" للتاج يبدو أنه استخدم  تبريراً للادعاء باستخدامه الحصري من قبل الإمبراطور البيزنطي. في مناسبات خاصة، مثل الاحتفالات الكنسية الكبيرة، يسمح للملك باستعماله مع الرموز والشعارات الأخرى، لكن عليه إعادتها إلى الأسقف المسئول عن حفظها بمجرد انتهاء الاحتفال (24). في هذا المحتوى من المهم أن نلاحظ الملك النوبي وهو يرتدي التاج في لوحة في كثدرائية فرس.

كان البطاركة في الكنيسة البيزنطية في أوقات محددة يرتدون الكاملاوكي الذى تطور إلى الـ مترا. الاختلاف الأساسي بين التاج الملكي والآخر الكنسي هو غياب القلادات المتدلية في الأخير (في لوحة جيورجيوس الثاني توجد القلادات). الرسوم الأولى المعروفة للتاج كرمز كنسي تمثلت في عدد من الأختام الألكية مع القديسين أشيلس، وبازل، ونيكولاس لبطاركة قسطنطينة والتي يرجع تاريخها للقرنين العاشر والحادي عشر (25). لا يعني هذا أن البطاركة أو المطارنة أنفسهم كان لهم حق ارتداءه في هذا الوقت. ويمكن أيضاً تفسيره بوصفه رمزاً للقديس. نجد في فرس العذراء ترتدي التاج نفسه في رسوم بداية القرن الحادي عشر، بحيث يمكننا على الأقل التأكيد على ايقونيته غطاء رأس للقديس. حقيقة أن القلادات هنا، كما هو الحال في التقليد البيزنطي، تم استبعادها إنما تشير إلى أن الايقونية البيزنطية كانت مألوفة. النوع الآخر للتاج (الذى لا يعتمد على أي نموذج بيزنطي، إلى حد ما يتوفر إلينا من معرفة)، وهو الذى تلبسه الملكة مارثا، يتطابق مع تاج العذراء في لوحة الميلاد العظيمة من فرس، والموجودة حالياً بمتحف السودان القومي للآثار بالخرطوم (الرقم 18). يبدو أن هذا التصوير للتاج بالنسبة لكل من الملكة ومريم العذراء يشدد على مفهوم  اشتقاق السلطة الملكية من القوة السماوية.

لم تك تأثيرات الثقافة البيزنطية وتجلياتها في الزخرف الكنسي مقصورة على تصوير الأساقفة والملوك. كنيسة نقع العقبة تميزت بزخرف داخلي مثير، بقيت فقط منه ثلاث شظايا، موجودة حالياً بالمتحف القبطي في القاهرة. على أساس واحدة من تلك الشظايا، ووصف فيرث وصوره الفوتوغرافية يمكننا افتراض وجود رسم يوم الحساب الأخير في الجدار الغربي في مقابلة الجزء الناتئ. الشظية، المحفوظة في القاهرة تظهر ما وصفه فرث كالآتي : "احتوى الجزء الوسط من الجدار الغربي لوحة جدارية لخنزير يبتلع الناس الناهضين من قبورهم، ويقابل الخنزير من الجانب الآخر تمساح". في الجدار الشمالي: "... مجموعة ناس تم دفنهم؛ وفي الجدار المقابل مجموعة ناس في بستان، غالباً المباركين في الجنة". تظهر صورة فوتوغرافية لتفاصيل الجدار الغربي ثمانية أشكال ملفوفة مثل مومياء، تظهر من توابيت. شخص تاسع، رجل عاري، يرقد مستنداً على مرفقه. فوق تلك الأشكال، ومنفصل عنها بشريط زخرفي، الجزء الأسفل لشكل متوج وجزء من جناح في الركن الجنوبي (26). تلك الشظايا تحمل كل خصائص منظر يوم الحساب، إذا فسرنا الناس الموصوفين بدلاً عن كونهم ابتُلعوا بكونهم لُفظوا. هذا التحديد مثير في ارتباطه بتأريخ الرسم. يؤرخ جودليفسكي رسم الجزء الناتئ بالقرن السابع (27). هذا التأريخ قد يكون مبكراً للغاية بالنسبة لرسم الجدار الغربي، لكن حتى وإن أرخناه بقرنين لاحقين، فإنه يمثل حالة مثيرة. يؤرخ التصوير البيزنطي الأقدم المتوفر ليوم الحساب الأخير بالقرن العاشر، في حين يفترض برنك تاريخاً متأخراً يرجع للقرن الثامن أو التاسع لهذا الموضوع في الايقونية البيزنطية (28). موضع الرسم في الجدار الغربي يتوافق من الوضع التقليدي في الفن البيزنطي (عادة في المجاز المؤدي إلى صحن الكنيسة) وفي الفن الغربي القروسطي. مرة أخرى نجد موضوعاً بيزنطياً مأخوذاً في مرحلته المبكرة للغاية. إذا كان التعرف على يوم الحساب الأخير صحيحاً، فإن تاريخاً يرجع للقرن التاسع يكون مقبولاً.

إذا كانت النوبة قد امتصت تأثيراً بيزنطياً، فإن ذلك لم يكن بطريقة منتظمة. يمكن تتبع العديد من الموضوعات والتفاصيل في الايقونية إلى أصول بيزنطية، لكن نظاماً لزخرفة الكنيسة، كما تطور في المدى البيزنطي خلال القرنين العاشر والحادي عشر، لم يتجذر مطلقاً في النوبة فيما يبدو لنا. تدليل واضح لهذه الكنائسية يتجلى في وجود تاج الأبرش، إلى جانب كل التيجان والأزياء الاحتفالية (29).

وصولاً إلى استنتاجات يمكننا القول بأنه ليس هنالك نظام ايقوني صارم في الرسم الجداري النوبي كما وليس هناك مخطط يمكن تمييزه، على الأقل ليس واحداً متسقاً. بالنسبة لعدد من الرسوم يوجد ارتباط ذو معنى مع جزء المبنى الذى رسمت عليه، لكن باستثناء موضوعات هامة مثل زخرف الجزء الناتئ، يبدو عدم وجود شروط صارمة في الرسوم التى وصلت إلينا. يجب ألا يكون هذا مثيراً ككل. موضوع زخرفي متجانس إلى هذا الحد أو ذاك بالنسبة للكنائس يبدأ في التطور في المدى البيزنطي بعد إزالة التماثيل، عندما أصبح الفن الديني مدمجاً رسمياً في الطقوس الدينية واللاهوتية. لم تمر لا مصر ولا النوبة بأزمة مماثلة، بالتالي أصبح ممكناً فيهما استمرار العملية التقليدية للزخرف العضوي والمخطط جزئياً.

تؤلف المناظر التكريسية الغالبية خلال القرن الثامن، عندما كان الرسم النوبي لازال تحت تأثير الفن القبطي. في النصف الثاني للقرن التاسع، في فترة حكم الملك جيورجيوس الأول، ولاحقاً نلاحظ التطور المتزايد لصور الأساقفة وأعضاء الأسرة الحاكمة في الزخرف الكنسي. رافق ذلك تأثير متنامي للثقافة البيزنطية، في الأزياء، والايقونية، والبروتوكول. يبدو أن هذه العملية ارتبطت بوضع النوبة القوي، والوضع الضعيف لمصر في القرنين التاسع والعاشر وبحقيقة أن بيزنطة أصبحت تمثل نموذجاً للإمبراطورية المسيحية.

المراجع

(1) W. Godlewski, 'Some remarks on the Faras cathedral and its paintings'. Journal of Coptic Studies 2 (1992), pp. 104-105.
(2) E. Kitzinger, 'The cult of images in the age before Iconoclasm'. Dumbarton Oaks Papers 8 (1954), 83-150.
(3) E. Dinkler, 'Beobachtungen zur Ikonographie des Kreuzes in der nubischen Kunst'. Nubia, recentes recherches, Warsaw 1975, 22-30; P. van Moorsel, 'Die Nubier und das glorreiche Kreuz'. BABESCH 47, 125-134.
(4) P. van Moorsel, 'The Coptic apse-composition and its Living Creatures'. Etudes Nubiennes, Cairo 1978, pp. 325-333.
(5) The identification of the southern pastoforion as a diakonikon, as we know it in the Byzantine church, is not beyond doubt in the Nile-region. But also in Deir al-Ahmar in Sohag the archdeacon Stepen has been depicted over the entran­ce to this room, seemingly more than a coincidence.
(6) In the following articles this group is discussed, accompanied by useful plans and axionometric reconstructions: S. Jakobielski, 'Remarques sur la chronologie des peintures murales de Faras aux VIIIe et IXe siecles' Nubia Christiana I, Warsaw 1982, pp. 142-167; M. Martens-Czarnecka, 'Faras pain­tings of the period between mid 8th and mid 10th century' Etudes et Travaux. XVI (1992), pp. 119-134.
(7) M. Martens, 'Faras paintings', p. 132, seems to consi­der the 8th century paintings carefully planned, but does not further explain this opinion.
(8) 'Some remarks on the sources of the fresco paintings of the cathedral of Faras' E. Dinkler (ed.), Kunst und Geschichte Nubiens in christlicher Zeit, Recklinghausen 1970, pp. 334-336.
(9) Jakobielski, 'Remarques', pp. 148/149.
(10) What is often referred to as a protection-scene from the late violet style (inv. 75) is not a bishop protected by a saint, judging from the costume and the position of the feet (K.C. Innemee, Ecclesiastical dress in the Medieval Near East, Leiden 1992, p. 205. It is even doubtful whether it is a pro­tection-scene at all.
(11) G, Vantini, ' Le Roi Kirki de Nubie a Baghdad: Un ou deux voyages?' Kunst und Geschichte Nubiens, pp. 41-48; W. Adams, Nubia corridor to Africa, Princeton 1984, p. 455.
(12) S, Donadoni, 'Les fouilles a 1'eglise de Sonqi Tino', E. Dinkler, Kunst und Geschichte Nubiens, p. 215, Abb. 191.
(13) B. Rostkowska, 'Contribution a 1'iconografie des per­sonnages laics dans les peintures murales en Nubie', Etudes Nubiennes, Cairo 1978, pp. 247-252. Judging from the shape of the crown and the fact that an eparch is depicted on the adjacent wall (Griffiths, LAAA XV, pl. XXV, nr 12) it is more logical to interpret the protected figure as a king.
(14) K. Michalowski, Faras, die Wandbilder in den Sammlungen des Nationalmuseums zu Warschau, Warsaw 1974, nr. 56, pp. 254­259. It is not clear whether the king was protected by Christ or the Virgin or not; at least no traces of a protector are visible.
(15) Michalowski Die Wandbilder, nr. 34, pp. 184-185.
(16) Michalowski, Die Wandbilder, nr. 19, p. 147; Innemee, Ecclesiastical dress, pl. 34.
(17) The oldest known examples of this iconography date back to the 13th century, like the icon in St. Catherines monaste­ry; K.A. Manafis (ed.), Sinai, treasures of the monastery of St. Catherine, Athens 1990, p. 177, fig. 51, but this does not exclude older examples.
(18) This was noticed already by W.H.C. Frend in 'Nubia as an outpost of Byzantine cultural influence' in Byzantinoslavi­ca XYIX (1968), pp. 319-326.
(19) K.C. Innemee, 'Byzantine elements in Nubian liturgical vestments' in Jahrbuch fur Antike und Christentum XXXII (1989), pp. 181-185; i.dem, Ecclesiastical Dress in the Medie­val-Near East, Leiden 1992, pp. 157-161.
(20) Michalowski, Die Kathedrale aus dem Wustensand, Einsie­deln 1967, pl. 78.
(21) M. Martens-Czarnecka, Les elements decoratifs sur les peintures de la Cathedrale de Faras, Warsaw 1982, p. 71, fig. 114-115.
(22) De Ceremoniis II, 27, ed. Reiske, Bonn 1829, p. 628.
(23) De Administrando Imperio XIII, ed. G. Moravcsik, CFHB, Washington 1967, p. 66
(24) Const. Porph., De Administrando Imperio, XIII, pp. 66, 69.
(25) E. Piltz, Kamelaukion et mitra, Uppsala 1977, pl. 162, 163.
(26) C.M. Firth, The Archaeological Survey of Nubia. Report for 1910-1911, Cairo 1927, p. 235, pl. 17a, 30c; Coptic Museum, inv. nr. 11476.
(27) W. Godlewski, 'The early period of Nubian art', Etudes nubiennes, conference de Geneve I, 1992, p. 289.
(28) B. Brenk, 'Die Anfange der byzantinischen Weltgerichts­darstellung', Byzantinische Zeitschrift 57 (1964), pp. 107­126; Idem, 'Weltgericht', E. Dinkler (ed.), Lexikon der Christlichen IkonoQraphie, Freiburg i.B. 1972, Tome 4, col. 513-516.
(29) A Sassanian origin for the eparch's crown still seems defensible: In the early 8th cent. paintings at Qusayr ‘Amra one of the kings, probably Chosroes II, wears a crown very similar to the eparchs crown; Martin Almagro e.a., Qusayr ‘Amra, Madrid 1975, lam. XVII; the horns or wings on the crown are hardly visible here. They do appear on the copy of A. Musil from the beginning of this century; cf. D. Talbot Rice, Islamic Art, Norwich 1979, ill. 19. For Sassanian crowns see also: R. Gobl, Sassanische Numismatik, Braunschweig 1968, Tab. XIV.


 للنص الإنجليزي                                                                                          الهولوسين المبكر وظهور الاستقرار في منطقة عطبرة






ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق