الأربعاء، 15 مارس 2017

زراعة الصحراء : إسهام الجرميين في جنوب ليبيا

لرؤية الصورة بحجم أكبر أضغط هنا
أركاماني مجلة الآثار والأنثروبولوجيا الســـودانية
ما قبل التاريخ والتاريخ المبكر في الصحراء الليبية
لرؤية أفضل أضغط هنا
ديسمبر 2006

زراعة الصحراء : إسهام الجرميين في جنوب ليبيا
دافيد ماتنجلي وأندرو ويلسون
ترجمة أسامة عبدالرحمن النور



يحتل الجرميون(1) في فزان، الذين شغلوا جزءاً كبيراً من جنوب ليبيا في فترة معاصرة بصورة عامة للإمبراطورية الرومانية، الآن مكاناً يزداد أهمية في المجادلة الدائرة حول الزراعة في الصحراء الوسطى. تمثل البينة الهائلة للتكيف الإنساني مع ظروف الصحراء والتطور المبكر للواحات المروية في هذا الجزء من الصحراء، أهمية كبيرة لدراسة الحالة هذه Barker and Gilbertson 2000. يفرض الجفاف الشديد في فزان تحديات هائلة أمام الإقامة الإنسانية، ويطرح السؤال عن الكيفية التى تمكن بها الجرميون والسكان اللاحقون من ممارسة الزراعة المستقرة في المنطقة. كشفت الأعمال الميدانية التي أجراها الإيطاليون في ثلاثينيات القرن المنصرم، ودانليز وأيوب في ستينيات وسبعينيات القرن المنصرم شيئاً من مدنية الجرميين، لكنها تركت العديد من الأسئلة المتعلقة باقتصادهم بلا إجابة Pace, Sergi and Caputo 1951; Ayoub   1967; Daniels 1970;1989  أصبحت تلك المشكلة الآن تحت المجهر بفعل العمل المنجز من قبل مشروع فزان (1997-2001). ركزت أعمال المسح والتنقيب الآثارية التي قمنا بتنفيذها في وادي الآجال، وهو الوادي الوسط من حزام الثلاث واحات الأساسية التي تؤلف فزان، والمعروفة بكونها قلب أرض الجرميين وتضم عاصمتهم في مدينة جرمة، جاراما سابقاً (Mattingly et al. 2003، لتركيب أكثر شمولية). عرفت جرمة منذ أعمال التنقيب التي أجريت في ستينيات القرن المنصرم باحتوائها على المباني ذات الأساسات الحجرية التي ترجع إلى تاريخ روماني Ayoub 1967. على مدى خمس سنوات، قمنا بالتنقيب في ما يبدو معبداً مجاوراً هنا، متتبعين الموقع الحضري بدءاً من آخر أطوار السكن فيه في بدايات القرن العشرين الميلادي انتهاءً ببدايات الموقع في حوالي 300 سنة ق.م. (لمراجعة التقارير المبدئية لأعمال التنقيب انظر:Mattingly et al.1997;1998a,b;1999;2000a,b;2001.

في وقت متوافق مع أعمال التنقيب، أجرى مشروع فزان كذلك أعمال مسح آثاري في وادي الآجال، والتي ألقت الضوء على السر الغامض لمواقع الإقامة الجرمية، والتي ظل مشكوكاً فيها مع الجبانات العديدة الهائلة على امتداد جرف السلسلة الجبلية. يشير الكشف عن العديد من مواقع الإقامة في مركز الوادي التي تعود إلى تاريخ جرمي، والمؤلفة من قرى نووية وأيضاً على الأقل من موقعين حضريين إضافيين، إلى أن تقديرات أعداد السكان الجرميين قد تحتاج إلى مراجعة تنحى نحو الزيادة Liverani 2000a,b,c and d; and also Edwards 2001. نقدر بأن الحد الأقصى للسكان تراوح بين 50/100 ألف نسمة. كيف، إذن، وفرت المجتمعات الصحراوية العديدة الغذاء لنفسها؟

توفر بقايا المئات من قنوات الري تحت الأرضية بلا شك جزءاً من مفتاح الإجابة. هذا النوع من النظام منتشر عبر العالم في الأراضي الجافة، ويظهر تحت مسميات مختلفة : فجارة، وقناة، وفلج ومسميات أخرى Cressey 1958; Goblot 1979; Balland 1992. الفجارة هي قناة تحت الأرض تسد المياه الجوفية (حنفية)، عادة في منحدر تل أو في منطقة السفح، وتقود الماء إلى سطح الأرض بعيداً أسفل التل عن طريق نفق قليل الانحناء. السمة التي تميز تشييد الفجارة أن النفق لا يكون أفقياً من طرف التل، لكن، بدلاً عن ذلك، تحفر ممرات عمودية (أشبه بالبئر- المترجم) على بعد مسافات محددة وتحفر الأنفاق بمسافات قصيرة بين قاع ممرين. تسمح الممرات بإزالة الأوساخ وتهوية النفق أثناء أعمال الحفر، وتسمح لعدد من فرق الحفر العمل في وقت متزامن، وتسمح لاحقاً بإجراء عمليات الصيانة وعمليات تنظيف الأنفاق. الرديم المستخرج من الممرات والأنفاق يكوم حول فم مداخل الممرات، خالقاً خط جد متميز من الحلقات "تلال خل ذات أحجام إنسانية" وفق تعبير جوبلوت (1979: 25).

كانت الفجارات سمة أساسية للمنظر الطبيعي، مع وجود 600 منها حالياً في فزان (اشتملت على حفر أكثر من مائة ألف ممر يبلغ عمق الواحد منها في حالات أربعين متراً ومع إجمالي قنوات تمتد إلى عدة آلاف الكيلو مترات). رغم أن كل هذه الظواهر يصعب تحديد تاريخها، فإن لدينا بينة تشير إلى أنها ترجع في الأساس لفترة الجرميين. وواضح أنها وفرت إمكانية الزراعة الواسعة والممتدة لمنطقة الوديان والواحات.

هناك بينة أخرى للزراعة الجرمية، تحديداً البقايا النباتية المكتشفة خلال أعمال التنقيب الآثاري، والتي يمكن مواجهتها بمعطيات المصادر التاريخية. ستبدأ هذه الورقة بطرح بعض الملاحظات حول الرؤية التي توفرها المصادر الكلاسيكية (الكتاب اليونان والرومان- المترجم) عن الجرميين، ومن ثم تعرض بصورة مقتضبة المعطيات التي توفرها دراسات النباتات القديمة من أعمال التنقيب التي أجراها شارلس دانيلز في مشروع فزان. الجزء الأعظم من العرض سيركز على الفجارات.

تصف المصادر اليونانية والرومانية عموماً الجرميين طبقاً لسلسلة جد محدودة من الكتابات النمطية عن سكان الصحراء وفق منظور مفترض (انظر Mattingly et al.:76-90 لتحليل أكثر تفصيلاً). النعوت المستخدمة لوصف الجرميين تبين المشكلة بصورة واضحة. فالجرميون يوصفون بأنهم : عديدين، ومتوحشين، وقساة، ويسكنون العشش، ومتفرقين، ومختلطين، وبلا قانون، يتلقون الجزية، وخفيفي التسليح، وقطاع طرق، وسود البشرة.

هناك إشارات للزراعة وأشجار النخيل، لكن تلك تتراجع إلى الخلفية في مواجهة الروايات المتكررة لقصة هيرودوت عن أبقار الجرميين ذات القرون التي تبلغ طولاً يفرض عليها أن ترعي الحشائش وهى تسير إلى الخلف (هيرودوت، التواريخ، الكتاب الرابع 183- 185). من السجل الكتابي المتراكم يمكن للواحد أن يستنتج بأن الجرميين كانوا قبيلة بدوية شبه مترحلة، مع قليل اهتمامات بالزراعة. كانت تلك رؤية نمطية ملائمة لاقتناع أهل البحر المتوسطي بتفوقهم، لكنها كانت بجلاء بعيدة عن التصور الدقيق للواقع.

تشير البينة النباتية المتحصل عليها من مشروع فزان وكذلك أعمال التنقيب البريطانية الأسبق في فزان بوضوح إلى الطبيعة الزراعية للاقتصاد الجرمي. فمنذ الألفية الأولى المبكرة توجد بينة وفيرة من "زنككرا" إلى حصاد أشجار النخيل المروية، وقمح الخبز، والشعير، وكرمة العنب، وشجرة التين van der Veen 1992; Daniels 1989:56-58. كل المحاصيل المزروعة كانت تحتاج إلى ري، خلافاً للعديد من الأعشاب الضارة الحالية، والتي تشير كلها إلى مناخ جاف وتربة مالحة. برزت الآن صورة مشابهة من جرمة القديمة، ورغم أن تحليل العينات من المستويات الجرمية لازال جارياً، فإنه يبدو أنه بحلول الأزمان الجرمية المتأخرة أضيفت محاصيل ثانوية أخرى مثل الدخن والذرة السكرية احتمالاً Mattingly et al. 2000:233-35. قد يشير إضافة المحاصيل الصيفية المطحونة تلك إلى تكثيف الزراعة عند الجرميين في القدم مع جني محصولين في ذات القطع. على أية حال، لتحليل أوسع للمعطيات علينا انتظار النتائج النهائية لاختبار أكثر من خمسمائة عينة والتي تم جمعها. كذلك تم تجميع عينات عظام حيوانية بطريقة منتظمة وهى الأخرى قيد الدراسة. كشف هام آخر هنا هو أن الجرميين احتفظوا بالخنازير جنباً إلى جنب مع الخراف، والماعز، والكلاب، والأبقار، والحمير، والخيول، والجمال. ويبدو أن الحيوانات قامت بدور متزايد ثانوي مقارنة بالزراعة في المجتمع الجرمي. يتجلى ذلك بوضوح في نظام الري بالفجارات.

يبدو أن الفجارة اخترعت في فارس، احتمالاً في وقت مبكر من الألفية الأولى السابقة للميلاد، وانتشرت غرباً إلى مصر (بحلول القرن الخامس ق.م.) ولاحقاً إلى عالم البحر الأبيض المتوسط الروماني. أدخلت الفجارات إلى أسبانيا في القرن الميلادي التاسع عن طريق أهل الشمال الأفريقي، وفيما بعد إلى أمريكا اللاتينية عن طريق الكونكيسدادور (المستعمرين الأوربيين). وجدت الفجارات بالإضافة إلى فزان في الصحراء الجزائرية وأجزاء من المغرب. ومع أن معظم الباحثين يعتقدون بأن الفجارات أُدخلت إلى فزان إما في العصر الروماني أو في الأزمان الإسلامية، وأنها انتشرت إلى الجزائر والمغرب في القرون الوسطي Goblot 1979، فإن العمل الميداني لمشروع فزان أوضح أنها أدخلت إلى فزان في تاريخ أقدم من ذلك؛ ويبدو واضحاً الآن أن الفجارات انتشرت احتمالاً إلى الصحراء الجزائرية من فزان. توفر فجارات الجنوب الجزائري مصدراً هاماً للمقارنة مع نماذج فزان، بخاصة طالما أن العديد من النماذج في الجنوب الجزائري استمرت في الاستخدام حتى القرن العشرين، خلافاً لفزان Cornet 1952; Lô 1953/54; Capot Rey and Damaude 1962; Champault 1969; Bisson 1989.

تتألف فزان أساساً من ثلاثة أحزمة للواحات، وادي الشاطئ في الشمال، ووادي الآجال في الوسط، وواحة مرزق ووادي البرجوج في الجنوب. يلخص الجدول(1) الموارد الهيدرولوجية لمنطقة فزان في فترة التعداد الإيطالي في الثلاثينات من القرن المنصرم.

جدول (1) قائمة العيون والآبار في منطقة فزان، مع أعداد المزارع وأشجار النخيل المسجلة في الثلاثينات من القرن المنصرم. إجمالي الفجارات المعروفة مسجلة أيضاً، مع أن تلك لم تك كلها مستغلة في ذلك التاريخ.

المنطقة
العيون
الآبار
المزارع المروية
إجمالي أشجار النخيل
الفجارات






وادي الشاطئ
277
612 دلو
1400
479.500
1+
وادي الآجال
12
1176 دلو
736
140.250
550
مرزق/حفرة
21
1022
837
276.000
65+
الشرقيات
2:1 دلو:ختارة




وادي حكمة
3
220 ختارة
172
66.850
1+
غات/تنزوفت
74
217(؟)
240
21.150
0
الإجمالي
387
3.247
3.385
983.750
617+

في الأزمان الحديثة المبكرة تم الإقلاع عن استخدام منظومة الفجارات وصارت معظم المناطق تعتمد على الآبار في الري. يمتلك وادي الشاطئ إمداداً كافياً من العيون، رغم أن جريان العديد من تلك العيون أخذ في الانخفاض بحلول منتصف القرن العشرين وأصبحت العديد منها خارج دائرة الاستخدام. تتكون طبقة الصخر المائي المستغلة لحفر الآبار في وادي الآجال من رمال ايولية تغطي طبقة طين غير منفذة للماء فقط تحت أمتار قليلة من السطح (مترين حول جرمة، حتى 15 متر في فجاية والقرَّية). في قدم منحدر الحمادة تحتوي الترسبات الطميية على ماء، وفي عمق أكبر توجد طبقات صخور مائية في حجر جيري وحجر رملي صدعي. كانت تلك الصخور المائية في أسفل المنحدر هي التي نقرتها أنظمة الفجارات بهدف توفير المياه المنحدرة إلى أنظمة الحقول في وسط الوادي الأسفل. معدل هطول الأمطار شحيح، يبلغ حوالي 10 ملمترات في السنة، ولا يقوم بدور مباشر في الزراعة.

توجد بقايا مئات الفجارات على امتداد وادي الآجال، على بعد 160 كيلو متر من الأبيض إلى الشرق من "تين أبوندا" إلى ما وراء "أوباري" في الغرب. تُظهر سلسلة من الصور الجوية التي التقطت خلال المسح الجوي الذي نفذه هنتنج Hunting في 1958 و 1968 إجمالي 531 بإضافة 100 فرع أو فروع تغذية. كشفت الدراسات التي أجريت على الأرض المزيد من الفجارات غير المرئية في الصور الجوية. تقدير وجود 550 قناة رئيسة بالإضافة إلى الروافد هو الحد الأدنى لما يوجد في وادي الآجال (لاحظ سوء تقدير سكارين Scarin في عام 1934 ودسبوي Despois في عام 1946 اللذين أعطيا الأرقام 150 و 200 فجارة). لوضع هذا الرقم في إطار منظوري، فإن إجمالي عدد الفجارات المعروفة في "تيدكلت" الجزائرية هو 176 موزعة في 14 منظومة (مع وجود 89 فقط منها مستخدمة في الخمسينيات). في أجزاء أخرى من فزان يذكر دسبوي العديد من منظومات الفجارات إلى الشرق من "مرزق" وقد تم تحديد الكثير منها حالياً من الصور الجوية المتوفرة في أرشيف دانيلز Despois 1946:56. كذلك ورد ذكر لفجارات في شمال-شرق فزان، في واحة أم العبيد في الطريق المتجهة شمالاً من "سبها" إلى "الفقهة" و "زلة" وفي واحة الجفرة. ليس من فجارات معروفة بالقرب من "غات". على كلٍ، عثر على مثال واحد على الأقل في وادي الشاطئ إلى الشمال الشرقي من "براك" رغم وفرة العيون الطبيعية في تلك المنطقة.

فجارات وادي الآجال الغربي هي الأكثر شهرة وتعطي فكرة عن البقية. العديد من طبقات الفجارات المعروفة يبدو ارتباطها بإقامات جرمية معروفة (مثل "الحطية" و "تندا"). منبع الفجارات في العموم هو الترسبات الحصوية  في قدم المنحدر في الطرف الجنوبي للوادي، حيث توجد أيضاً الجبانات ذات الأنصبة التذكارية الحجرية التي ترجع للجرميين (شكل 1). يمكن تكوين فكرة عن أعداد الفجارات وتوزيعها عن طريق مراجعة البينة من الجزء الغربي للوادي.

(شكل 1) فجارات تظهر وسط جبانة الأنصبة الحجرية في قدم الجرف

المجموعتان الغربيتان للفجارات توجدان في "تين أبوندا"، إلى الغرب من "أوباري"، مع  مجموعة أخرى مع ثمان فجارات مرتبطة أكثر بإقامة وجبانات قديمة في "إين تفارات"، ومن ثم أبعد إلى الشرق توجد مجموعة مكونة من حوالي 30 فجارة طويلة بين "التامالالت" "وتندا/أوباري" (شكل 2).

عدة مجموعات من الفجارات الأقصر تحيط بالمنطقة المحاذية لـ "تندا"، وإلى الشرق، بين "تندا" و"تجاليت"، حيث يتراجع المنحدر إلى الجنوب من "الديسه"، توجد بعض الفجارات الأطول في الوادي، وتمتد لأكثر من أربعة كيلو مترات ونصف الكيلو متر من المنحدر إلى قلب الواحة. أبعد إلى الشرق مجدداً، توجد مجموعة فجارات أقصر، متوازية تقريباً مع فروع على هيئة الحرفY (شكل3)، تجري من الجبانات ذات الأنصبة التذكارية الحجرية في قدم الجانب الغربي لـ "تجاليت" المحاذي باتجاه بطن الوادي حيث تم الكشف عن آثار إقامة جرمية وجبانة أهرام من الطين. إلى الشرق من "تجاليت"، توجد مجموعة كثيفة من الفجارات، العديد منها بأنظمة فروع متفرعة، تبين على الأقل طورين، الطور الثاني منهما يتقاطع فوق الأول. إلى الشرق من تلك، إلى الجنوب من "الحطية"، توجد مجموعة أقل تعقيداً مؤلفة من حوالي 14 فجارة تكاد تكون متوازية، تنتهي آثارها بالقرب من جبانة الأهرام الطينية. أبعد إلى الشرق يمكن مشاهدة تجمع مكون من 26 فجارة متوازية إلى الجنوب من "القريفة" في الصور الجوية لكنها حالياً مدمرة بفعل قلع الكتل الحجرية والزراعة الحديثة. تجري 17- 18 فجارة متوازية على بعد مسافات متقاربة من قاعدة الجزء الشمالي الغربي من جرف "زنككرا" باتجاه "القريفة"، في حين إلى الشرق من "زنككرا" تكون الفجارات متباعدة أكثر وتشكل نظاماً متفرعاً يشمل 11 فرعاً تندمج في ثمانية مخارج في منطقة "قصر وطواط".
(شكل 2) فجارات في وادي الآجال في تفارات حتى تندا

توسع الإقامة الحالية في المنطقة، مع الزراعة المروية بآبار محفورة في قلب الوادي، وأعمال قلع الكتل الحجرية بالبلدوزر بالقرب من المنحدر، يؤدي إلى تدمير الآثار السطحية للفجارات بصورة تستوجب القلق. كان الدمار شديداً بخاصة حول تواش، حيث تعرض نصف الفجارات المبينة إلى التدمير بالبلدوزر بالقرب من المنحدر أو أنها اختفت تحت المزارع بالقرب من الطريق المعبد (شكل 4).
(شكل 3) روافد في تجاليت على هيئةY

الحاجة إلى توثيق مواقع الفجارات ومجاريها أمام تقدم التطور الجاري تدلل عليها حالة منزل حديث في قرقرة حيث انهارت أرضية إحدى الغرف في منزل عام 1998 في فجارة يبلغ عمقها تسعة أمتار ونصف المتر. لحسن الحظ فإن الشخصين الذين انهارت بهما الأرضية وسقطا داخل الحفرة نجيا، لكن مثل هذه القنوات المدفونة تشكل خطراً يهدد بانهيار المباني التي لا بدً من أخذها في الحسبان في التخطيط التنموي.

معظم الفجارات في وادي الآجال يتراوح طولها بين نصف الكيلو متر والأربعة كيلو مترات ونصف، وقطعت في رمال
(شكل 4) تدمير مجموعة فجارات تواش بفعل الحفر بالبلدوزر والزراعة في الوقت الحالي
وحصى قابلة للسحق مع مداخل متقاربة للممرات، عادة تبعد 5-10 متر عن بعضها، في حالات تبلغ 15 متر أو تكون قريبة من بعضها بـ 3.6 متر. هذه المسافة أقصر من المسافة العادية في سوريا أو إيران (حيث تكون المسافة بين الممرات عادة 20-30 متر وقد تصل إلى 50 متر)؛ لكنها تقارن بالفجارات في الصحراء الجزائرية.

في معظم الحالات تملأ مداخل الممرات بالتربة المنهارة، لكن في أحيان تظل مرئية بدون عائق. يمكن أن تكون بيضاوية أو شبه مستطيلة في خريطتها (تختلف الأبعاد من 67x57 سم حتى 130x75 سم)، وتكون في العادة غير مصفوفة، لكن الأمتار القليلة الفوقية لبعضها محاطة بكتل حجرية خشنة كأسية الشكل، أو مصفوفة بطوب غير محروق. في حالات تكون الممرات مقطوعة مباشرة في الصخر، مع مواطئ قدم مرئية في حوافها. العمق 9-10 متر هو القياس المسجل عادة، لكن بعضها سجل عمق بلغ 30 و 40 متراً في عدة مواقع بالقرب من الآبار-الأم. بلا شك تتناقص أعماق الممرات مع مسار الفجارة باتجاه الوادي بحيث تبرز القناة إلى السطح في نهاية المطاف. أجريت دراسة محدودة لقنوات الفجارة تحت الأرضية في عدد من النقاط حيثما كانت مرئية في الآبار أو الحفر الحديثة المرتبطة بتشييد الطرق، وتم التنقيب في مدخل ممرين لفجارتين مختلفتين بهدف دراسة الترسبات في القناة (شكل 5). القنوات التي تمت دراستها كانت تبلغ في العادة 0.50 متراً عرضاً x حوالي 1.30-2.00 متر ارتفاعاً، ذات قطاع غير منتظم الشكل قطع في الصخر بدون دواعم للتقوية. بعضها كان في شكل قوس منخفض حوالي 0.80 متر في العرض و 1.10 متر في العمق، في حين كانت أخرى أقل عرضاً 0.30- 0.55 متر و 1.25- 1.30 متر في الارتفاع. وبما أن قمة القناة في النموذج الضيق لا يتعدى 0.80 متراً تحت السطح فإن ضيق القناة يمكن أن ينتج عن الحاجة إلى تقليل المخاطرة في حال انهيار الطبقة النحيفة الأعلى.

(شكل 5) رسم قطاعي لقناة فجارة

المسافات المتقاربة بين الممرات يمكن تفسيرها جزئياً بالطبيعة المتهشمة للصخر والمخاطرة الناتجة عن انهيار القناة. لأسباب تتعلق بكل من السلامة عند التشييد الأولي وبتيسير تحديد العوائق في القناة وإزالتها أصبح مطلوباً الإبقاء على مسافات قصيرة بين الممرات، رغم العمل الإضافي الذي ينجم عن حفر أعداد أكثر من الممرات. لكن يبدو أيضاً أن ذلك يشير إلى فقدان نسبي لخبرة المسح وحفر الأنفاق – بخاصة عندما يقارن ذلك بالقناة الفارسية.

لم يتم الكشف عن بينة محددة لمستجمعات المياه أو منشئات التوزيع في نهاية الفجارات، ذلك أن الزراعة الحالية تحتل المنطقة التي انتهت عندها تلك الفجارات. المقارنة مع الفجارات التي هي في حالة حفظ أفضل في الصحراء الجزائرية قد تشير إلى أن المنشئات الختامية قد تكون شكلت مستجمعات للمياه (تهميت)، مع حجارة مسطحة حادة الأطراف (أنفيف) تتحكم في تدفق المياه إلى قنوات سطحية (تهافت أو تيجوهامت) تروي المزارع Capot Rey and Damade 1962:100-113; Keenan 1977:338; Laureano 1991: 154-158. في العديد من الحالات الجزائرية، تتم عملية الري أثناء الليل، مع إعادة تعبئة الحوض بالماء أثناء النهار Lô 1953: 146-149. المحاولات للكشف عن مثل هذه المظاهر في فزان غير مكتملة في الوقت الحالي. تظهر الصور الجوية للواحة والسطح المالح إلى الشمال من تواش ما قد يبدو قنوات أو سدود، إلا أن استكشاف السطح يشير إلى أن ارتباطاً بعمليات تجهيز الملح هي الأقرب، رغم أنهم قد يكونوا استفادوا من فائض الماء من الري بالفجارات.

في حين أن معظم الفجارات كانت أُحادية القناة، فإن عدداً معتبراً منها كان له فرع أو أكثر من فرع. تتخذ تلك عادة شكل حرف Y بالقرب من رأس الفجارة، وتمثل رمزاً مميزاً لكون غرفة تصريف الفجارة تم تطويرها، عادة استجابة للتسريح المتناقص وانخفاض منسوب حوض الماء (انظر Bisson 1989:183 بالنسبة للصحراء الجزائرية). الفروع ذات الشكل Y المحفورة من البئر الأم الواقعة في قاعة المنحدر تضرب بعمق في قاع طبقة الصخر المائي، ويزيد طولها الإضافي منطقة سطح غرفة التصريف التي يمكن للماء التسرب من خلالها (شكل 5 و 6). توفر الفروع والأنظمة
(شكل 6) رافد فجارة على هيئة Y
المتفرعة مؤشراً للمجهودات الضرورية لضمان الجريان استجابة لانخفاض منسوب مياه الحوض، لكن هذا يلاحظ بوضوح أكبر في الحالات التي يكون طور فجارة أقيم فوق آخر. يبدو أن حجم المياه المتوفرة، وبالتالي الأرض المروية، انخفض في الأطوار اللاحقة، مما يشهد على تدني منسوب الحوض والضغوط على إعالة السكان.

مثلها مثل معظم منشئات الأنفاق أو المقطوعة في الصخر، فإن تاريخ الفجارات يصعب تأريخه إلى درجة بعيدة. بمجرد تطويرها، فإن تقنيات التشييد الأساسية لم تتغير مع مرور الزمن، من ثمَّ لا تتوفر مؤشرات أسلوبية. ثلاث مراحل لأصول فجارات فزان تم طرحها:
 (1) تفترض واحدة من النظريات أصلاً إسلامياً، اعتماداً على التشابه (في بعض الحالات) مع القصور القروسطية المبكرة. بالتالي، اقترح كليتسش وبايرد بأن التقنية جلبت عن طريق العرب بعد القرن السابع الميلادي. أشارت الترسبات إلى تاريخ روماني للقصور المربعة أو إلى تاريخ متأخر شيئاً ما وأرخا الفجارات بالعصر الوسيط المبكر، مشيرين إلى أنها لم تتجاوز الغزوات المتكررة التي شهدتها القرون الحادي عشر، والثالث عشر، والخامس عشر Despois 1946:59-60؛ Klitzsch and Baird 1969:73-80
(2) اعتقد كابوتو بأن الفجارات أدخلت إلى فزان عن طريق الرومان. لكنه لا يقدم بينة، سوي استخدامها في مناطق أخرى من العالم الروماني، والمؤشرات الأخرى لتجارة الجرميين وصلاتهم الثقافية مع روما. الإدخال الروماني المدعى للفجارات إلى فزان قدم كجزء من نشر الرومان للري وتقنية التحكم في المياه على امتداد شمال أفريقيا، وهى وجهة نظر تأثرت بالمحتوى السياسي في إيطاليا في أواخر ثلاثينات القرن المنصرم عندما كتب كابوتو. أصل روماني لفجارات فزان افترضه أيضاً جوبلوت Caputo 1937:309-310; Goblot 1979:116-117.
(3) جادل دانيلز، من منطلق العلاقة المتداخلة الواسعة بين الفجارات ومواقع الإقامة والجبانات الجرمية، بأن أصلها غالباً ما يرجع إلى الفترة الجرمية، وليس بالضرورة نتيجة الصلة بروما Daniels 1970:42.

رغم الصعوبات في التأريخ، وفر عملنا الميداني عدداً من المؤشرات لتأريخ الفجارات:

أولاً، في العديد من المناطق – "تجاليت"، و "الديسة"، و "إن تفارات" – قطعت الفجارات مخترقة جبانات غير حاملة للفخار مؤلفة من مدافن أسطوانية ذات أنصبة تذكارية، والتي توفر تاريخاً ما بعد ختامي نسبي (غير مؤرخ). في "إن تفارات" في النهاية الغربية للوادي، قطعت فجارتان تخترقان جبانتين مختلفتين شيدتا ببنية فوقية حجرية دائرية. ذلك النوع من المدافن التلية شائعة في شمال أفريقيا بدءاً من العصر الحجري الحديث المتأخر وما بعده؛ لكن غياب أي نوع من الفخار في تلك الجبانات يشير إلى تاريخ مبكر. واضح أن بعض الجبانات المتفرقة تسبق في تاريخها الفجارات التي تخترقها مباشرة، وفي حالات يراكم الرديم المستخرج من ممرات الفجارات على المدافن. الظاهرة نفسها بادية للعيان في "الديسة" وفي "تجاليت"، بين "جرمة" و "أوباري"، حيث قطعت الفجارات مخترقة جبانات ذات مدافن متفرقة بأنصبة تذكارية، بدون تناثر للفخار (يسجل زيجرت Ziegert 1969:54 فجارات تخترق جبانات بالقرب من "زنككرا"). على كلٍ، لوحظت جبانات من فوق الفجارات.

ثانياً، لا تقطع الفجارات، أو أنها تتجنب أو يتم تجنبها لدى إنشاء جبانات ذات تاريخ جرمي معروف. في "إن تفارات"، على بعد بعض مئات الأمتار من المكان الذي قطعت فيه الفجارة مخترقة جبانة غير حاملة للفخار ومؤلفة من تجمع مدافن، توجد جبانة أخرى مؤلفة من تجمع مدافن تلية كل واحدة منها بمذبح من الحجر إلى الشرق من كل مدفن. حول المذابح وجدت كمية معقولة من الامفورا المستوردة الفينيقية والرومانية يرجع تاريخها للقرن الثاني ق.م.- القرن الميلادي الثاني. ومع أن هناك فجارة أخرى شيدت بالقرب من هذه الجبانة، إلا أنها لا تخترقها.

الوضع في "تجاليت" مشابه؛ ففي حين توزعت بصورة متفرقة جبانات ذات أنصبة تذكارية غير حاملة للفخار بامتداد قدم المنحدر، فإن جبانات لاحقة احتوت على مدافن أسطوانية منحدرة متجمعة بالقرب من بعضها البعض، بمذابح حجرية وموائد قرابين. جبانة "تجاليت" الرئيسة ترجع إلى العصر الجرمي الكلاسيكي وأعطت فوق ذلك كميات معتبرة من فخار روماني وامفورا ترجع إلى تاريخ متأخر (القرن الأول–الخامس الميلادي). وفي حين أن الفجارات بامتداد منحدر "تجاليت" اخترقت جبانات متفرقة ذات أنصبة تذكارية لتصل إلى طبقة الصخر المائي في قدم المنحدر، يبدو أنها تجنبت الجبانات المتجمعة التي ترجع للقرون الميلادية المبكرة.

يبدو بالتالي أن الفجارات شيدت بعد أن توقف استخدام الجبانات غير الحاملة للفخار، لكن إما قبل أو أثناء فترة استخدام الجبانات المتجمعة بكثافة المؤرخة بالفترة من القرن الثاني ق.م. حتى القرن الرابع الميلادي. يمكن أن تكون الفجارات سابقة تاريخياً لتلك الجبانات والتي قد يكون مكانها أختير في هذه الحالة بحيث يتم تجنب الفجارات، أو أن تكون حفرت عندما كان الناس لا يزالون يدفنون في الجبانات المتجمعة، والتي تم بالتالي احترامها.

ثالثاً، وجد موقع إقامة في "فجاية" (مع فخار مؤرخ بالقرون الأول-الرابع الميلادية) من فوق رديم فجارة ومواقد مجروفة من الموقع المقطوع في الضفة. توفر هذه الإقامة تاريخاً بدئياً لهذه الفجارة، التي  لا يمكن، على الأقل، أن تكون تالية للقرن الرابع الميلادي وقد تكون أقدم بكثير.

بصورة أكثر عمومية، هناك ارتباط لتجمعات الفجارة ونقاط ظهورها مع المواقع الجرمية في أرضية الوادي. ورغم وجود بعض الارتباطات المتداخلة للفجارات بمواضع القصور أو أية إقامة ما بعد جرمية، وهى نقطة سبق أن أشار إليها كلتسيش وبايرد Klitzsch and Baird 1969: 73-80، فإن هذا مشهود بدرجة أقل من الارتباط المتداخل بين الإقامة الجرمية ومواقع الجبانات؛ وإلى الغرب من "أوباري" في "تفارات" و "تين ابوندا" توجد فجارات  وجبانات جرمية، لكن لا وجود لقصور أو أية إقامة ما بعد جرمية. كشفت المتابعة الميدانية للعديد من القصور الإسلامية أنها قد أعقبت عموماً الإقامات الجرمية في المواضع نفسها، وفي حالات قد تكون القصور ورثت فجارات فاعلة موجودة سلفاً.

العديد من النقوش بالأبجدية الليبية/التيفناغ يبدو ارتباطها بممرات الفجارة بالقرب من منبع العديد من الفجارات. ورغم وجود نقوش أبجدية ليبية/تيفناغ ومناظر فن صخري في عدد من الصخور الضخمة حول منحدر "تجاليت"، فإن النقوش القريبة من الفجارات توجد ليس على بعد مسافة من الأخيرة. بدلاً، فإنها على صخور مجاورة مباشرة لممرات الفجارة، وبالتالي لا بدَّ أن تحمل معنى مرتبط بالفجارات. يبقى هذا التفسير غامضاً، رغم أن بعضها يحوي المجموعة "ن ك"، التي تعني حرفياً "أنه أنا" في لغة التماهاغ، والتي تستخدم أساساً لإدخال اسم الكاتب في نقوش التيفناغ؛ العديد من نقوش التيفناغ تسجل ببساطة أسماء شخصية، مع أن بعضها يقدم معلومات أكثر.

محتمل جداً، بالتالي، أن تكون تلك النقوش تسجل أسماء الناس الذين اشتركوا في عملية تشييد الفجارات وصيانتها، أو أسماء المالكين للفجارات. لسوء الطالع أننا لم نتمكن بعد من تأريخ تلك النقوش. تظهر الأبجدية الليبية في النقوش على الأقل منذ القرن الثاني ق.م.، ولازالت مستخدمة اليوم لتسجيل اللغة الطارقية تماهاغ، ويعرف الخط اليوم بـ تيفناغ. على كلٍ، فإن نقوش فجارة واحدة على الأقل يدمج أشكال حروف في النقش الليبي الفينيقي الجديد الثنائي في ضريح "دوجا"، لكن تلك الأشكال أسقطت في الاستخدام قبل أن يسجل رحالة القرن التاسع عشر إلى ليبيا أبجدية التيفناغ السارية حينها (على سبيل المثال Duveyrier 1864:386-90). لازالت دراسة نقوش التيفناغ في طورها الجنيني، ولا نعرف في أية لحظة بين المديين الكرونولوجيين توقفت أشكال الحروف المعنية عن الاستخدام.

عناصر أخرى تدعم تاريخاً قبل روماني لإدخال الفجارات إلى فزان. كشفت أعمال التنقيب الآثاري التي نفذها شارلس دانيلز في الستينيات والسبعينيات من القرن المنصرم بقايا قمح، وعنب، وتين، وتمر، سوياً مع نباتات شملت الكرفس، والشمارة، وعشبة توابل في محتويات تؤرخ بالقرن التاسع حتى القرن الرابع ق.م. في قلعة "زنكيكرا" التلية van der Veen 1992:7-39. وبما أن المناخ كان في كل الاحتمالات جافاً للغاية في الألفية الأولى السابقة للميلاد بما يساعد في نمو تلك المحاصيل بدون ري، وبما أن التواريخ من ترسبات الحجر الجيري (الترافرتين*) في قدم المنحدر تشير إلى أن العيون هنا قد جفت، فإن ذلك يمثل بينة دالة على وجود نوع من الري الاصطناعي في فزان في الفترة الجرمية المبكرة. يدعم ذلك الارتباطات المكانية لتجمعات الفجارات مع الإقامة الجرمية في أرضية الواحات، وربما أيضاً مع الجبانات الجرمية في قدم المنحدر. بصورة أكثر عمومية، يشير اكتشاف أعداد المواقع الجرمية أثناء المسح الميداني ضمنياً إلى مستويات سكانية كبيرة مدعومة بزراعة مستقرة، وستبدو الفجارات ضرورية للحفاظ على تلك المستويات من السكان.

المحصلة الكلية، أنه من المؤكد أن الفجارات أدخلت إلى فزان فيما قبل القرن الرابع الميلادي، وهناك حالة قوية لتأريخ إدخال تقنية الفجارة بمرحلة التمدن الجرمية المبكرة في القرون الختامية السابقة للميلاد قبل تطوير صلات تجارية وثيقة مع روما. ليس من الضروري النظر إلى الإمبراطورية الرومانية مصدراً جاء منه نظام الري بالفجارات؛ استخدمت الفجارات في صحراء مصر الغربية منذ على الأقل النصف الثاني للقرن الخامس ق.م.، في الفترة الأخمينية. ثبتت الدراسات الأخيرة في الواحة الخارجة أن أنظمة "القناة" هناك تؤرخ بعهد ارتاكيركس الأول (466-426 سنة ق.م.): تشمل هذه البينة المنشئات الأخمينية التي بنيت من فوق تلال تشييد "القناة" ومع مواد من أعمال الصيانة المتعاقبة موضوعة إلى جانبها، و أوستراكا ديموطيقية تشير إلى توزيع المياه Wuttmann 2001. آخذين في الحسبان الصلات الثقافية والتجارية بين مصر وفزان منذ أزمان مبكرة، يصبح محتملاً إلى حد بعيد أن تكون الفجارات قد أدخلت إلى فزان من مصر خلال النصف الثاني من الألفية الأولى السابقة للميلاد.

في عام 1822 رسم هج كلابرتون Hugh Clapperton، الرحالة الأوربي الأول الذي ترك سجلاً لوادي الآجال، صورة لوادي مفقر وقليل السكان المتفرقين خلافاً لصورة الوادي في فترة ازدهاره في العصر الجرمي. ذكر كلابرتون فجارات مهجورة في فزان وأن السكان ما كانت لهم فكرة عن الغرض منها. سجل مشروع فزان مقابر منعزلة ذات تاريخ إسلامي من فوق ممرات فجارات مطمورة في "تين أبوندا"، و "إن تفارات"، وبين "الديسة" و "تجاليت"، واحتمالاً أيضاً إلى الجنوب من "جرمة". هجر استخدام الفجارات والانتقال إلى الري المعتمد على الآبار حدث بوضوح بفترة طويلة قبل القرن التاسع عشر، لكن مرة ثانية، لا يمكن تثبيت التاريخ بدقة كبيرة. من مراجع متناثرة عن مستويات السكان القروسطيين في المنطقة، ومن مكتشفات آثارية مبدئية تشير إلى انخفاض معتبر في عدد المواقع السكنية في الفترة القروسطية المبكرة، قد يبدو محتملاً تثبيت تاريخ بالقرون الأولى القليلة التي تلت الفتح الإسلامي. تقدم المصادر العربية المبكرة بعض المفاتيح بالنسبة لتاريخ ظهور نوعين من الآبار في فزان، الدلو و الختارة. يؤكد الإدريسي، الذي كتب في القرن الثاني عشر للميلاد، أنه بحلول تلك الفترة كان الري في الوادي اعتمد على آبار الختارة، لا على الفجارات.

هذه الفقرة تسببت في ارتباك وخلط، لأن ختارة هي أيضاً كلمة مستخدمة في المغرب للدلالة على الفجارة لكن معناها العادي في فزان والمغرب هو بئر الشادوف Colin 1932:35-39; Despois 1960:1232; Lethielleux 1948: 93. عندما سمى الإدريسي الآلة بـ الختارة فإنه لا بدَّ وأن يكون يتحدث عن الري من الآبار المعتمدة على الشادوف، والإفادة الخاصة بأن ماء الشرب يأتي من آبار  أيضاً يشهد على هجر الفجارات في وادي الآجال في فترة سبقت القرن الثاني عشر. البينة الأقدم لاستخدام بئر الدلو في فزان من المحتمل أن تكمن في حقيقة أن آبار "زويلة" كانت تحرك عن طريق قوة الجمل في القرن الحادي عشر. المنطقة حول "زويلة" هي منطقة أخرى في فزان قدمت بينة دالة على أنظمة فجارات يرجع تاريخها للفترة الجرمية وأن تعقيب البكري هذا يبدو وأنه يشير إلى تاريخ مبكر للتحول في الفترة ما بعد الجرمية.

التدليل على أن الفجارات في وادي الآجال تؤرخ بأزمان الجرميين يمكننا من طرح عدد من الاستنتاجات حول المجتمع الجرمي. إنها تفسر الكيفية التي تمكن بها الجرميون من استغلال وادي الآجال، وأيضاً وادي البرجوج، وواحة مرزق والحفرة. كانت الفجارات هي القاعدة الهيدرولوجية للمدنية الجرمية، ومكنت من نشوء زراعة كبيرة مستقرة لإعالة أعداد كبيرة من سكان هذه المنطقة الجافة. كان إدخال تقنية الفجارة ولا شك عنصراً هاماً في ظهور دولة جرمية موحدة، مما يسمح بري مناطق أوسع وخلق فائض زراعي أكبر، وظهور متطلبات تعتمد على اقتناء الرقيق.

ما هو نوع التنظيمات الاجتماعية التي كانت مطلوبة لبناء الفجارات وصيانتها؟ واضح أن العمل المدخل في بناء الفجارات وصيانتها أكثر بكثير من مجرد إهماله. قدر لو أن فجارة تمتد لأربعة كيلو مترات، مع متوسط عمق ممر 12 متراً بمسافات 10 متر تفصل بين الممر والذي يليه، تتطلب 48.000 رجل Lô 1953: 168 الـ 550 فجارة في وادي الآجال وحده قد يكون استخدم في تشييدها 72.000 رجل يعملون يومياً على مدي عام (أو فريق مؤلف من 1000 شخص، على مدى 72 سنة). صيانة قنوات الفجارة يختلف كثيراً طبقاً لجيولوجية المكان، رغم أن أرقاماً من "تابلبالا" في الجزائر تقترح مئات الآلاف من سلال الرمل ومواد أخرى يتوجب إخراجها سنوياً من داخل فجارة واحدة Champault 1969: 104.

بينما كانت هناك طرق مختلفة لتنظيم العمل في بناء الفجارة، بدءاً من حفاري القنوات المتخصصين أو ما يسمون بـ "موكاني" في فارس، والذين يشكلون طبقتهم الخاصة، انتهاءً بحفاري فجارة الواحات الجزائرية من الأرقاء، فإن فرضية قابلة للاختبار قد تؤكد بناء الفجارات الجرمية في فزان باستخدام العمل العبودي. فالجرميون اصطادوا بلا جدال التروجلوديت الإثيوبيين منذ أزمان مبكرة، غالباً لاستخدامهم عبيداً (هيرودوت، الكتاب الرابع). كانت المتاجرة بالرقيق ولا شك مركباً هاماً في تجارة الجرميين وترحالهم عبر الصحراء وقد تكون أيضاً عنصراً يفسر كمية البضائع الرومانية المستوردة في فزان Liverani 2000b.

زوال مملكة جرمة لا يمكن رسمه بموثوقية، لكنه من المحتمل أنها تشظت إلى عدد من الوحدات الإقليمية الأصغر. فقدان السيادة الإقليمية للدولة الجرمية قد يكون ترك تأثيراً على إمدادات الرقيق وعمليات التجارة الصحراوية. مشكلة انخفاض طبقات الصخور المائية يمكن أن تكون تضاعفت بفعل صعوبة إضافية تمثلت في ضعف القيادة السياسية التي أصبحت عاجزة عن توفير الأعداد اللازمة من الرقيق للمحافظة على أنظمة ريها الحيوية. الحل المبدئي للجرميين لمشكلة كيفية زراعة الصحراء شملت الاستخدام العبقري لمصادر المياه الجوفية والاستغلال المكثف للقوة العاملة. الظروف ما بعد الجرمية شهدت تدنياً نسبياً للزارعة الفزانية مما يشير إلى الظروف الهيدرولوجية المتبدلة وإلى درجة استغلال أقل لقوة العمل الإنساني.

شكر
المؤلف الأول لهذه الورقة هو المدير العام لمشروع فزان، في حين أن المهمة الأساسية لتسجيل آثار الفجارات وامتداداتها على الأرض في وادي الآجال كان إلى حد كبير مسئولية المؤلف الثاني للورقة. الكثير من العمل الخاص بتخريط أنظمة الفجارات من واقع الصور الجوية أجري في جامعة لستر من جانب الدكتور ديفيد ادواردز وجهزت معظم الرسوم التخطيطية في لستر من قبل مايك هاوكس. تمويل البحث المعروض ههنا تم توفيره من قبل الأكاديمية البريطانية، وصندوق ليفرهولم، وجمعية الدراسات الليبية. تمثل هذه الورقة مختصراً موجزاً لدراسة تفصيلية يقوم بإعدادها المؤلف الثاني، مع إسهام من قبل المؤلف الأول، فيما يتعلق بالتقرير النهائي لمشروع فزان Mattingly et al. 2003.



(1) شاعت في المراجع العربية تسمية الجرمنت إشارة إلى الشعب الصحراوي الذي أسس مملكة جرمة في فزان، وتمثل التسمية بهكذا صورة نقلاً ميكانيكياً عن اللغات الأوربية التي اعتمدت الاسم الذي سجله هيرودوت والكتاب الإغريق والرومان اللاحقين "جرامانتيس". نستخدم هنا الاشتقاق العربي من اسم مدينة جرمة، بالتالي "الحضارة الجرمية" و "الجرميون" (المترجم).
* ترافرتين = حجر جيري معروف انه يخدم مؤشراً جيداً لوجود الماء.

REFERENCES

Ayoub M.S. (1967), Excavations in Jarma between 1962 and 1966. Tripoli.
Balland D. (ed.) (1992), Les eaux cachées. Études géographiques sur les galleries drainantes souterraines. Departement de Géographie, Univers Sorbonne: Paris.
Barker G. and D.D. Gilbertson (eds.) (2000), The Archaeology of Dry lands. Living at the margins. One World Archaeology series 39. Routledge: London.
Bisson J. (1989), ‘The origin and evolution of foggara oases in the Algerian Sahara’. In: P. Beaumont, M. Bonne and K. McLachlan (eds), Qanat, kariz and khattara: traditional water systems in the Middle East and North Africa. Menas: London and Wisbech: 178-209.
Capot-Rey R. and W. Damade (1962), ‘Irrigation et structure agraire à Tamentit (Touat)’. Traveaux de l’Institut de Recherches Saharienne 21: 99-119.
Caputo S. (1937), ‘Archeologia’. In Società Reale Geographica Italiana: Il Fezzan e l’Oasi di Ghat. Roma: 301-330.
Champault D. (1969), Une oasis du Sahara nord-occidntal : Tabelbala. CNRS : Paris.
Colin G.S. (1932), ‘La noria marocaine et les machines hydrauliques dans le monde arabe’. Hespéris 14 : 22-61.
Cornet A. (1952), ‘Essai sur l’hydrogéologie du Grand Erg Occidental et ses régions limitrophes : les foggaras’. Traveaux de l’Institut de Recherches Sahariennes  8 : 72-122.
Cressey G.-B. (1958), ‘Qanats, karez and foggaras’. Geopgraphical Review  48: 27-44.
Daniels C.M. (1970), The Garamantes of Southern Libya, Stoughton: The Oleander Press.
Daniels C.M. (1989), ‘Excavation and fieldwork amongst the Garamantes’. Libyan Studies 20: 45-60.
Despois J. (1946), Mission scientifique du Fezzan (1944-1945), Géographie humaine.Algiers.
Despois J.J. (1960), Bir,iii, the Maghrib. In: Gibb H.A.R., Kramers J.H., Lévi-Provençal E., Schacht J., Lewis B. and Pellat C (eds), Encyclopedia of Islam vol. I, Leiden: 1231-1232.
Duveyrier H. (1964), Les Touareg du nord. Exploration du Sahara. Vente du sable : Paris.
Edwards D. (2001), ‘Archaeology in the southern Fazzan and prospects for future research’. Libyan Studies 32: 49-66.
Goblot H. (1979), Les qanats: une technique d’acquisition de l’eau. Paris: Mouton.
Keenan J. (1977), The Tuareg. People of Ahaggar. London: Allen Lane.
Klitzsch E. and D.W. Baird (1969), Stratigraphy and palaeohydrology of the Jarma (Jarma) area, southwest Libya. In: Kanes W.H. (ed.), Geology, archaeology and prehistory of southwestern Fazzan, Libya (Petroleum Exploration Society of Society of Libya, Eleventh annual field conference 1969), pp. 67-80: Castelfranco-Veneto.
Laureano P. (1991), Sahara. Jardin méconnu. Paris : Larousse.
Lethielleux J. (1948), Le Fazzan. Ses jardins , ses palmiers. Notes d’ethnologie et d’histoire. Tunis.
Liverani M. (2000a), ‘Salt from the Garamantes’. Archaeology Odyssey March/April 2000: 20-28.
Liverani M. (2000b), ‘The Garamantes: a fresh approach’. Libyan Studies 31: 17-28.
Liverani M. (2000C), ‘The Libyan caravan road in Herodotus IV. 181-184.’ Journal of the Economic and Social History of the Orient 43, 4: 496-520.
Liverani M. (2000d), ‘Looking for the southern frontier of the Garamantes’. Sahara 12: 31-44.
Lô Capitaine (1953-54), ‘Les foggaras du Tidikelt’. Travaux de l’Institut de Recherches Sahariennes 10, pp. 139-179 ; 11, pp. 49-77, Alger.
Mattingly D.J., M. Al-Mashai, P. Balcombe, S. Chapman, H. Coddington, J. Davison, D. Kenyon, A.L. Wilson and R. Witcher (1997), ‘The Fazzan Project 1997: methodologies and results of the first season’. Libyan Studies 28: 11-25.
Mattingly D.J., M. Al-Mashai, P. Balcombe, S. Chapman, H. Coddington, J. Davison, D. Kenyon, A.L. Wilson and R. Witcher (1998a), ‘The Fazzan Project I: research goals, methodologies and results of the 1997 season’. Libya Antiqua 3: 175-199.
Mattingly D.J., M. Al-Mashai, P. Balcombe, N. Darke, S. Knight, S. Mclaren, R. Pelling, T. Reynolds, D. Thomas, A. Wilson and K. White (1999), ‘The Fazzan Project 1999: preliminary report on the third season of work’. Libyan Studies 30: 129-145.
Mattingly D.J., M. Al-Mashai, H. Aburgheba, P. Balcombe, E. Eastaugh, M. Gillings, A. Leone, S. Mclaren, P. Owen, R. Pelling, T. Reynolds, L. Stirling, D. Thomas, D. Watson, A.I. Wilson and K. White (2000a), ‘The Fazzan Project II: preliminary report on the 1998 season’. Libya Antiqua 4: 219-249.
Mattingly D.J., M. Al-Mashai, P. Balcombe, T. Barnet, N. Brooks, F. Cole, J. Dore, N. Darke, D. Edwards, J. Hawthorne, R. Helm, S. Knight, A. Leone, S. Mclaren, R. Pelling, J. Preston, T. Reynolds, A. Townsend, A. Wilson and K. White (2000b), ‘The Fazzan Project 2000: preliminary report on the fourth season of work’. Libyan Studies 31: 103-120.
Mattingly D.J., C.M. Daniels, J.N. Dore, D. Edwards and J. Hawthorne (2003), The Archaeology of Fazzan I. Synthesis. London.
Pace B., Sergi S. and Caputo G. (1951), Scavi Sahariani. Ricerche nell’Uadi el- Agial e nell’Oasi di Gat. Monumenti Antichi XLI. Accademia dei Lincei : Roma.
Van der Veen M. (1992), ‘Garamantian agriculture: the plant remains from Zinkekra, Fazzan’. In: Libyan Studies 23: 7-39.
Wuttmann M. (2001), ‘Les qanats de ‘Ayn-Manawit’. In : Brian P. (ed.) Irrigation et drainage dans l’antiquité. Qanats et canalisations souterraines en Iran, en Egypte et en Grece. Collection « Persica », pp. 109-135.
Ziegert H. (1969), ‘Überblick zur jüngeren Besiedlungsgeschichte des Fazzan’. In: Berliner Geographischen Abhandlungen 8: 49-58.







ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق