الأربعاء، 15 مارس 2017

دراسات في ثقافاتنا الأفريقية

أركامانى مجلة الآثار والأنثروبولوجيا الســـودانية








دراسات في ثقافاتنا الأفريقية


جون مبيتي
أستاذ اللاهوت والدين المقارن
كلية جامعة ماكريري
مقدمة كتابه "الديانات والفلسفة الأفريقية" (1969)*







الأفارقة متدينون للغاية، ولكل شعب منظومته الدينية الخاصة مع سلسلة معتقدات وممارسات. ينفذ الدين إلى كل مؤسسات الحياة بصورة من الاكتمال يصعب أو يستحيل معه عزلها. دراسة مثل تلك المنظومات الدينية، بالتالي، هي في نهاية الأمر دراسة الناس أنفسهم في كل تعقيدات الحياة التقليدية والحديثة. معرفتنا المكتوبة بالديانات التقليدية قليلة نسبياً، رغم أنها في تزايد، وتأتي في الأساس من الأنثروبولوجيين والسوسيولوجيين. عملياً لم يتم إنتاج معرفة عنها من قبل اللاهوتيين، الذين يصفون أو يفسرون تلك الأديان لاهوتياً.

نتكلم عن الديانات الأفريقية بصيغة الجمع لأن هنالك حوالي ألف شعب أفريقي (قبائل)، ولكل منها منظومتها الدينية الخاصة. تلك الديانات هي حقيقة واقعة تستدعي التدقيق الأكاديمي والتي لا بد من أن تُحسب في إطار المبادين الحديثة للحياة مثل الاقتصاد، والسياسة، والتعليم، والدراسات المسيحية أو الإسلامية. تجاهل تلك المعتقدات، والسلوكيات، والممارسات التقليدية يمكن أن يقود فقط إلى انعدام فهم للسلوك والإشكاليات الأفريقية. الدين هو العنصر الأقوى في الخلفية التقليدية، ويمارس التأثير الأكبر على تفكير الناس المعنيين وحياتهم.

في حين أن الديانة يمكن فهمها بمصطلحات المعتقدات، والاحتفالات، والطقوس، فإن الفلسفة ليس من اليسر تمييزها. سوف نتناول الديانات المختلفة من حيث تشابهاتها واختلافاتها، لامتلاك صورة عن الوضع الشامل في أفريقيا. لكن بما أنه لا وجود لمنظومات فلسفية موازية يمكن ملاحظتها بمصطلحات ملموسة مماثلة، فإننا سوف نستخدم المفرد "فلسفة" للإشارة للفهم الفلسفي للشعوب الأفريقية بالنسبة لموضوعات الحياة. فلسفة من هذا النوع أو ذاك تكمن وراء تفكير أي شعب وأفعاله، وأن دراسة الديانات التقليدية إلى تلك المناطق في الحياة الأفريقية حيث يمكننا، عن طريق الكلمة والفعل، إدراك الفلسفة وراءه. يتضمن ذلك تفسير المعلومة المتوفرة أمامنا، ولا يمكن للتفسير أن يكون بالكامل متحرر من الحكم الذاتي. ما هية، إذن، "الفلسفة الأفريقية"، قد لا ترقى إلى أكثر من مجرد عملية فلسفتي الذاتية للموضوعات قيد الدراسة: لكن هذا لا يمكن تجاوزه، وعلى أية حال فإنني أفريقي بالميلاد. المنظومات الفلسفية للشعوب الأفريقية المختلفة لم تتم صياغتها بعد، لكن صوت الأحاسيس التي يمكن أن تكون فيها موجودة في الديانة، والأمثال الشعبية، والتحدارات الشفهية، وأخلاق المجتمع المعني وقيمه. ضمنت بعض تلك المجالات في هذه الدراسة، لكن الأمثال الشعبية بخاصة تستحق معالجة منفصلة طالما أن محتواها الفلسفي هو تموضعي في الأساس. لا نمتلك، على كلٍ، مجموعة شاملة للأمثال الشعبية الأفريقية يمكننا عن طريقها إجراء تحليل كلي وشامل لهذا النوع من الفلسفة. تشير "الفلسفة الأفريقية" هنا إلى الفهم، وطريقة عمل الذهن، والمنطق وراء الكيفية التي يفكر بها الأفريقيون أو يتفاعلون أو يتحدثون في مواقف حياتية مختلفة.

ولأن الديانات التقليدية تنفذ إلى كل مؤسسات الحياة، فلا وجود لتمييز شكلي بين جوانب الحياة المقدسة والدنيوية، بين الدينية وغير-الدينية، بين الروحية والمادية. أينما حل الأفريقي، هناك توجد ديانته: إنه يحملها إلى الحقول حيث يزرع البذور أو يحصد محصولاً جديداً؛ يحملها معه إلى احتفالات الجعة أو لحضور مراسم جنازة؛ وإذا كان متعلماً، فإنه يأخذ ديانته معه إلى قاعة الامتحان في المدرسة أو في الجامعة؛ وإذا كان سياسياً فإنه يأخذها معه إلى البرلمان. رغم أن العديد من للغات الأفريقية ليس فيها كلمة "ديانة" صرفة، فإنها ترافق مع ذلك الفرد منذ أزمان سابقة لمولده حتى أزمان طويلة تعقب وفاته الجسدية. عن طريق التغير الحديث فإن تلك الديانات التقليدية لا يمكنها أن تظل غير متبدلة، لكنها ليست منقرضة بحال من الأحوال. في أوقات الأزمات تطفو تلك الديانات إلى السطح، أو أن الناس يعودون إليها سراً.

الديانات التقليدية ليست للفرد في الأساس، لكنها لمجتمعه الذي يمثل هو جزءاً منه. كتبت فصول من الديانات الأفريقية في كل مكان في حياة المجتمع، وفي مجتمع تقليدي ليس هناك أناس غير متدينيين. ليصبح المرء إنساناً هو أن ينتمي إلى المجتمع ككل وفعل ذلك يتضمن المشاركة في المعتقدات، والاحتفالات، والطقوس، والأعياد الخاصة بذلك المجتمع. لا يستطيع الفرد عزل نفسه عن ديانة مجمعته، إذ يعني ذلك انقطاعه من جذوره، ومن أساسه، ومن محتوى الأمن، ومن أقاربه ومجمل مجموعة أولئك الذين يجعلونه يدرك وجوده الذاتي. أن يصبح الفرد بودن أي من عناصر الحياة المركبة تلك إنما يعني أن يكون خارج الصورة كلها. بالتالي، أن يكون الفرد بلا ديانة إنما يرقى إلى أن يحرم نفسه دينياً من مجمل حياة المجتمع، ولا يعرف الأفارقة كيفية الوجود بدون ديانة.

أحد مصادر التوتر الحاد بالنسبة للأفارقة المعرضين للتغير الحديث هو العملية المتزايدة التي يصبح عن طريقها الأفراد (عن طريق التعليم، والتمدين، والتصنيع) منعزلين عن بيئاتهم التقليدية. يتركهم ذلك في فراغ فاقدين لأساس ديني متين. انهم ممزقون بين حياة أجدادهم، والتي غض النظر عما يقال عنها، لها جذورها التاريخية وتقاليدها الراسخة، وحياة عصرنا التكنولوجي، الذي لا يمتلك بعد بالنسبة للعديدين من الأفارقة لا شكلاً محدداً ولا عمقاً. في تلك الظروف، لا يبدو أن المسيحية والإسلام تزيلان الاحساس بالاحباط وفقدان الجذور. ليس كافياً تعلم معتقد وتبنيه والذي يكون نشطاً مرة في الأسبوع؛ إما يوم الأحد أو الجمعة، بينما تظل بقية أيام الأسبوع فارغة فعلياً. ليس كافياً اعتناق عقيدة تنحصر في مبنى كنيسة أو مسجد، مغلق ستة أيام ويفتح مرة واحدة أو مرتين في الأسبوع. إذ لم تتمكن المسيحية والإسلام من احتواء الفرد كلياً، إن لم يكن أكثر من، الديانات التقليدية، فقد يتأتى لمعظم المتحولين إلى هاتين العقيدتين الاستمرار في العودة إلى معتقداتهم وممارساتهم القديمة على الأقل لمدة ستة أيام، وبالتأكيد في أوقات الطوارئ والأزمات. مجمل البيئة وكل الوقت يجب أن يكون مشغولاً بمعنى ديني، بحيث يشعر الفرد في أي مكان وأي وقت بالأمن الكافي للتصرف بوعي ديني ذي معنى. وحيث أن الديانات التقليدية تشغل الفرد بكامله وكل حياته، فلا بد وأن يتضمن التحول إلى ديانة جديدة مثل المسيحية أو الإسلام تبنياً لـ لغة الديانة الجديدة، وما تبشر به من أنماط تفكير، ومخاوف، وعلاقات اجتماعية، وسلوكيات، ومواقف فلسفية، إذا كان لذلك التحول أن يترك أثراً راسخاً ودائماً على الفرد ومجتمعه.

العديد من المعتقدات والممارسات يمكن الكشف عنها في أي مجتمع أفريقي. لكن تلك ليس بالضرورة أن تكون مصاغة في منظومات عقائدية منتظمة يتوجب على الفرد قبولها. يتمثل الناس أية أفكار وممارسات دينية تعتنقها أو تمارسها أسرهم ومجتمعاتهم. تلك التقاليد تم تحدرها من الأجداد، ويتقبلها كل جيل مع التعديلات الملائمة لوضعه واحتياجاته التاريخية الخاصة. الأفراد يختلفون في وجهات النظر فيما يتعلق بمسائل مختلفة؛ وقد تختلف الأساطير، والطقوس، والاحتفالات في التفاصيل من منطقة إلى أخرى. إلا أن مثل هذه الأفكار أو وجهات النظر لا تعد مخالفة أو معارضة لأية فكرة اورذوكسية. بالتالي عندما نقول في هذا الكتاب أم هذا المجتمع أو ذاك "يعتقد"، أو "يروي"، أو "يمارس" هذا وذاك، فإننا لا يتضمن بأية حال أن كل فرد في ذلك المجتمع يسهم في تلك العقيدة أو يمارس ذلك الطقس. تلك معتقدات وأفعال مشتركة، ولا يمكن أن تكون هناك جماعية في مثل تلك المعتقدات، والأفكار، والممارسات. في الديانات التقليدية ليست هناك عقائد تسرد؛ بدلاً، فإن العقائد مدونة في قلب الفرد، وكل فرد هو بنفسه عقيدة حية بديانته الخاصة. أينما وجد الفرد، هناك توجد ديانته، ذلك أنه كائن ديني. هذا هو ما يجعل الأفارقة متدينين : الديانة هى مجمل منظومة وجودهم.

واحدة من صعوبات دراسة الديانات والفلسفة الأفريقية تكمن في انعدام كتب مقدسة خاصة بها. الديانة في المجتمعات الأفريقية مدونة لا في ورق لكنها مدونة في قلوب الناس، وعقولهم، وتاريخهم الشفهي، وطقوسهم، والشخصيات الدينية مثل الكهنة، وصناع المطر، والكبار القائمين بالمهام، حتى الملوك. كل فرد هو حامل ديني. بالتالي علينا دراسة ليس فحسب المعتقدات الخاصة بالإله والأرواح، لكن أيضاً الأشخاص المسئولين عن الطقوس والاحتفالات الرسمية. ما يفعله الناس يتم تحت تحفيز ما يعتقدونه، وينبع ما يعتقدونه من ما يفعلونه ويجربونه. بالتالي، الاعتقاد والممارسة في مجتمع أفريقي تقليدي لا يمكن الفصل بينهما: انهما ينتميان إلى كلٍ واحد.

الديانات التقليدية ليست عالمية: إنها قبلية أو وطنية. كل ديانة محدودة ومرتبطة بالناس الذين ظهرت وسطهم. ديانة تقليدية بعينها لا يمكن التبشير بها وسط مجموعة قبلية أخرى. لكن هذا لا يستبعد حقيقة أن الأفكار الدينية قد تنتشر من شعب إلى آخر. لكن مثل هذه الأفكار تنتشر بعفوية، بخاصة عن طريق الهجرات، والتزاوج البنيني، والغزو، أو المعرفة المتخصصة التى يسعى بعض أفراد مجموعة قبلية إلى اكتسابها من مجموعة قبلية أخرى. الديانات التقليدية لا مبشرين يمارسون الدعوة لها؛ والفرد لا يبشر بديانته لآخر.

بالمثل ليس هناك تحول من ديانة تقليدية إلى أخرى. لكل مجتمع منظومته الدينية الخاصة، والتبشير بمثل هذه المنظومات الكاملة سوف يعني التبشير بكل حياة الناس المعنيين. بالتالي فإن الفرد يجب أن يولد في مجتمع بعينه بحيث يتمثل المنظومة الدينية للمجتمع الذي ينتمي إليه. لا يمكن للشخص الأجنبي أن يدخل كلياً أو يقدر تماماً ديانة مجتمع آخر.

الديانات الأفريقية لا مؤسسين لها ولا مصلحين. لكنها قد تشتمل على أبطال، وزعماء، وحكام قوميين وغيرهم من رجال ونساء مشهورين في جسم معتقداتهم وأساطيرهم. بعض تلك الشخصيات قد تُرفع إلى مراتب قومية عالية بل حتى يمكن عدها مؤلهة مسئولة عن موضوعات أو ظواهر طبيعية. أولئك الأبطال من الرجال والنساء يشكلون جزءاً مكملاً للبيئة الدينية لمجتمعهم، غض النظر كونهم قاموا أو لم يقوموا بدور ديني محدد في وقتهم.

الاعتقاد في استمرارية الحياة بعد الممات وجدت في المجتمعات الأفريقية، إلى حد ما تمكنت من اكتشافه. لكن هذا الاعتقاد لا يؤلف أملاً في المستقبل وفي حياة أفضل. الحياة هنا والآن هي الاهتمام الأهم للنشاطات والمعتقدات الدينية الأفريقية. هناك قليل اهتمام، إن وجد، بسعادة الفرد الروحية خلاف حياته الجسدية. لا وجود لخط فاصل بين الروحي والجسدي. حتى الحياة في عالم ما بعد الممات ينظر إليها من منظور مادي جسدي. ليست هناك لا جنة يتم التطلع إلى ولوجها ولا نار تستوجب الخوف منها في العالم الآخر. لا تتطلع روح الإنسان إلى تخلص من الخطيئة، ولا إلى تواصل أوثق بالإله في العالم الآخر. إن هذه الحقيقة عنصر مهم في الديانات التقليدية، وهي حقيقة سوف تساعدنا في فهم تركيز التدين الأفريقي على الأمور الدنيوية، مع الإنسان في قلب هذا التدين. وهنا أيضاً تظهر أهمية المفهوم الأفريقي لمسألة الزمان. فالديانات والفلسفة التقليدية تعنى بالإنسان في الزمان الماضي والحاضر. يظهر الإله في الصورة كتفسير لصلة الإنسان بالزمان. ليس هناك أمل تبشيري أو نظرة رؤيوية مع الإله بارزاً في لحظة مستقبلية ما، جالباً تحولاً جذرياً في حياة الإنسان العادية. لا يصور الإله في علاقة أخلاقية، وروحية مع الإنسان. أفعال الإنسان التعبدية واللجوء إلى الإله هي براجماتية ونفعية أكثر منها روحية أو روحانية.

مع معرفتنا غير الكاملة بالديانات الأفريقية، يستحيل وصف تاريخها. عموماً، على كلٍ، يبد أنها ظلت مستقرة، وتمثلت بهدوء أفكاراً وممارسات جديدة من بعضها البعض. تؤدي الأزمات القومية مثل الحرب، والمجاعات، وانتشار الأمراض الوبائية، وغزوات الجراد، والتغيرات الكبيرة في الطقس، إلى إحياء النشاطات الدينية أو ابتاع ممارسات جديدة. طالما أن الناس مرتبطين بصورة وثيقة بحياتهم ورؤاهم الدينية، فإن تاريخهم يؤلف تاريخ ديانتهم. هذا مجال للدراسة يستدعي تعاوناً تكاملياً بين المؤرخين، والأنثروبولوجيين، وعلماء اللاهوت. لم أبذل محاولة في هذا الكتاب لمعالجة الجوانب التاريخية للديانات الأفريقية، ولا أدري إذا ما كانت قد أجريت دراسة في هذا الاتجاه. تناولي هنا هو في الأساس وصفي وتفسيري، يجمع بصورة مقارنة تلك العناصر التى قد تكون ممثلة للديانات التقليدية من كل أنحاء أفريقيا. في مثل هذه الدراسة المسحية العامة لا يوجد مجال لمعالجة معمقة لمنظومة دينية متفردة ومركبة لكل شعب؛ لكن آمل في أن تكون التوضيحات المفصلة المستخدمة هنا والمشتقة من أنحاء عديدة من أفريقيا تشير ليس فحسب لهذا التعقيد المميز للديانات الأفريقية بل يقدم أيضاً حلاً جزئياً لما يمكن معالجته بعمق أكثر.


*Reverend JOHN S. MBITI, African Religions and Philosophy. Heinemann Educational Book Ltd., London and Edinburgh: Morrison and Gibb Ltd.







ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق