الأربعاء، 15 مارس 2017

المغزى الأيديولوجي الإنقاذوي لتدمير التراث السودانوي

أركامانى مجلة الآثار والأنثروبولوجيا السـودانية
ملف إنقاذ تراثنا القومي السودانوي من الإنقاذ
لم يعد الصمت ممكناً
المغزى الأيديولوجي الإنقاذوي لتدمير التراث السودانوي

د. أسامة عبدالرحمن النور و د. محمد حسن باشا


من الجلي الآن أن الصمت لم يعد ممكناً، فأمر حماية التراث قد تخطى حاجز ما هو خاص الى ما هو عام، فالحماية في السابق كانت هاجس السلطة في مواجهة بعض الأفراد الذين يمكن أن يسببوا الأذى للآثار والمواقع الآثارية الممتدة على خارطة السودان الوطن الواحد، أما الآن فإن الواجب يحتم علينا التحرك لحمايتها من تفريط السلطة التى جعلتها مطمعاً لكل متربص. والأدهى في الأمر، أن ذلك التفريط لا يؤثر في هذا الجيل ولا حتى الذى يأتي بعده، وإنما في مستقبل الأجيال التى ستأتي تباعاً.

إن المحنة التى يتعرض لها تراثنا القومي السودانوي تتلخص في الممارسات المتعمدة المدعومة سلطوياً والتى ستكون نتيجتها الحتمية تدمير الإرث الحضاري لأمتنا السودانية. لا يهم هنا ما يمكن أن يتبادر الى بعض الأذهان من أن بعضها يمكن أن يكون ناتجاً عن عدم المعرفة أو الجهل من قبل أولئك الذين يمارسونها : فالنتيجة الحتمية هى ضياع الموروث الحضاري مرة والى الأبد. ورحم الله الأستاذ الجليل نجم الدين محمد شريف الذى استشرف آفاق ذلك المستقبل حين دخلت البلاد في "ظلام الإنقاذ"، فتبين له أن التيار الظلامي قد انتصر في البلاد ولا بدَّ له من أن ينال الآثار بسوئه، قال الفقيد رحمة الله عليه لنا عصر الجمعة الموافق 31 يونيو، بمجرد أن سطا البشير على مايكروفون الإذاعة ليعلن عن انقلابه الظلامي، وكنا قد أتينا الى زيارته في منزله بحي المقرن بعد أن قضينا اليوم بمبنى المصلحة للاطمئنان على الأوضاع بالمتحف، للتشاور والتفاكر : "يا أسامة! ويا باشا! إن كل ما يمكن تخريبه وافساده في بلادنا يمكن اصلاحه، ولو بعد حين، إلا الآثار فإن ما يتم تدميره أو افساده منها لا يمكن اصلاحه أو إعادته أبداً، فعليكما الآن تقع مسئولية يزداد ثقلها". لم يكن الرجل ينطلق من فراغ فتيار الهوس الديني في داخل تيار الإسلام السياسي له تاريخ مع الآثار، فقد ظل منذ أمد ينادي "بحرمة التنقيب، وعرض الآثار، وأن العاملين في مجالها إنما يتقاضون مرتبات حرام...الخ.". والآن وعلى مدى هذه الأعوام الإنقاذوية الكالحة من عمر شعوب أمتنا السودانوية، لحق بالآثار تدمير لم يصبها منذ الالآف من السنين، لا عوامل التعرية ولا القدم ولا معاول فرليني وديناميته في أهرام البجراوية في عام 1834 ولا غيرها فعلت في الآثار ما فعله "فتية الإنقاذ"... صحيح أن الكثير في السودان قد أصبح آثاراً منذ أن أطل ليل الإنقاذ... لكنها صفحات مدونة، أما الآثار التى نعنيها فهى صفحات من كتاب تاريخ حضارة أمتنا السودانوية الغابرة والتى بلا شك لا تتوفر إمكانية لإعادة طباعتها مرة أخرى، خاصة وأنها لم تنشر بعد في معظمها.

لذلك إرتأينا - ونحن اللذين اضطلعا بمهمة الحفاظ على آثار أمتنا وتراثها فترة ليست بالقصيرة من عمرنا - أن نتصدى ونفضح ما يجرى على أرض الواقع بحسبانه عوامل مدمرة، تمضي نحو غاية مؤكدة تكون نتيجتها التدمير الكلي لأعز ما يمكن أن نحافظ عليه لتتملكه الأجيال المتعاقبة. رأينا أنه من واجبنا نحو أمتنا، وفي أضيق الحدود، أن نملكها حقيقة ما يمس تراثها ويهدده وبالتالي كيان ماضيها مع حاضرها الشاخص نحو تجذير مستقبلها. كما أن الأمانة العلمية لن تغفر لنا الصمت كون أننا نعلم خفايا وجوانب هامة ترتبط بماهية ذلك التراث... والتاريخ لن يرحم أحداً إن لزم الصمت، ومن حق أبناء أمتنا جميعاً في جيلها الراهن وأجيالها القادمة ألا يرحمنا إن فعلنا.

إن قضية الحفاظ على التراث القومي السودانوي تتداخل ما بين خصوصية محلية تتشابك لتتحول الى مهمة تجاه الإنسانية جمعاء. ولنعلم جميعاً أن القاعدة المتعارف عليها بين علماء الآثار، أنهم حينما يمارسون التنقيب الآثاري بحثاً عن المعطيات العلمية، فإنهم يضعون نصب أعينهم أنهم في ذات الوقت يدمرون ذات الأثر، والى الأبد. من هنا يجئ حرصهم على التوثيق المتكامل والرصين له، ولكل الخطوات التى اتخذوها حياله، بل أن المدرسة الآثارية الحديثة ذهبت الى أبعد من ذلك حين نادت بضرورة عدم تنقيب موقع آثاري بأكمله والابقاء على جزء منه وحمايته طمعاً في أن الأجيال القابلة قد تتملك تقنيات ومناهج أكثر حداثة وأفضل تقودها الى معرفة حقائق إضافية. فإذا كان العالم من حولنا يولي كل تلك العناية بتراثه... فأين نحن من كل ذلك؟

إن الحفاظ على الموروث الآثاري هو بلا شك مسئولية كل واحد من أبناء هذه الأمة، وأن مصلحة الآثار والمتاحف القومية هى الجهاز التنفيذي المنوط به القيام بهذه المهمة منذ إنشائها في عام 1902. ويفترض أن يتواصل هذا الدور بعد أن تم تحويلها الى "هيئة" وما كانت مطالبتنا بتحويلها الى "هيئة للبحث العلمي" في عهد الديمقراطية الثالثة المؤودة، إلا عن قناعة راسخة بأن ذلك التطوير يستهدف في المقام الأول تطوير قدرات ذلك الجهاز للقيام بمسئولياته الإدارية والعلمية على أكمل وجه.

لقد ظلت مصلحة الآثار السودانية تمارس نشاطها وفق ثوابت ترسخت في أوساط الآثاريين، فأضحت تقاليداً متفق عليها قبل أن تصبح عرفاً بين علماء الآثار. هذا جزء من موروث التجربة الإنسانية التى ظلت المصلحة حريصة على التقيد به، قناعة منها بأن ذلك يسهم في حماية التراث القومي وبالتالي الإنساني:
* المنحى الأول : يتجسد في نظرتها للتراث بأنه ملك للأجيال القادمة وللإنسانية جمعاء، وأنه يمثل المرتكز المرجعي في تنمية الاحساس بالانتماء للأرض وللوطن الأمة، وبالتالي تكريس حالة الشعور القومي السودانوي؛
* المنحى الثاني : ضرورة تكريس كافة الإمكانيات المتاحة حالياً للحفاظ على ما هو موجود من آثار منقولة وغير منقولة؛
* المنحى الثالث : انتهاج سياسة الاحتفاظ بالمواقع الآثارية التى صنفت بوصفها "مواقع مفتاحية" حتى يكتمل تأهيل كادر وطني يمتلك القدرات العلمية والتقنية على التنقيب فيها باستقلال تام (النقعة على سبيل المثال)؛
* المنحى الرابع : منح رخص الاستكشاف والتنقيب الآثاري للبعثات الأجنبية وفق شروط مصلحة الآثار، مع الأخذ بعين الاعتبار أن الأولوية تكون للمواقع التى يتهددها الخطر بفعل مشاريع التنمية أو بفعل عوامل بيئية تعيق استمرار المحافظة عليها.

بناء عليه، فقد قامت المصلحة بعدة جهود في هذا الشأن : فقد وضعت خرائط دقيقة بالمواقع الآثارية وحددت تلك التى يحظر القيام فيها بأية أنشطة تضر بها سواء تلك التى تؤدي الى تدميرها أم فقدان المعلومات العلمية للمحيط. ويشمل ذلك بالطبع الآثار المنقولة وغير المنقولة وتم تعزيز تلك التوجهات باستصدار قانون للآثار في عام 1952 تنص بنوده على تفعيل تلك الثوابت، ومنح مدير عام الآثار حق مقاضاة كل من يعتدي على أي من المواقع الآثارية، بل وتجعل من مجرد الاحجام عن التبليغ بوجود أثر وقعت يده عليه أو علم بوجوده، في حكم من قام أو أسهم بتدميره، وبالتالي تعرضه للمساءلة القضائية. كما أن القانون في جوهره يقر بأنه لا يحق لأية جهة أو فرد القيام بالحفر بغية استخراج الآثار في أي بقعة بالسودان إلا بإذن كتابي من مدير عام الآثار. مع العلم بأنه يمنع مدير عام الآثار من استصدار مثل ذلك الإذن إلا لشخص يحمل مؤهلاً علمياً رفيعاً في علم الآثار ويمتلك تجربة عملية معتبرة في مجال التنقيب الميداني.

صحيح أن قانون الآثار لعام 1952 قد أصاب مفاصله بعض القصور الناجم عن عدم مواكبته للمتغيرات التى لازمت الساحة الوطنية منذ اصداره وأصبحت الحاجة ملحة لادخال التعديلات عليه. هذا الأمر ظلت إدارة الآثار تسعى لإدخال التعديل منذ عقد السبعينات من القرن الماضي وجهزت مسودة تحوي التعديلات الواجب إدخالها. وانها لفرصة عظيمة أن يتم التوجه نحو تعديله في عام 1999، إلا أن كل ما كان مطلوباً لم ينجز بل وأنجزت التعديلات من خارج إدارة الآثار ودون اسهامها أو استشارة مقترحاتها الموجودة في ملفاتها. من ثم مازالت بنود من هذا القانون المعدل لعام 1999 تنتظر التعديل، وأخرى أن تضاف وبعضها أن يصوب. ويبقى السؤال الملح : لماذا القانون في الأساس؟ وما الغاية من التعديل؟ ببساطة الغرض فيما يفترض أن يكون هو حماية الآثار وضمان بقاء التراث شاخصاً للأجيال وللإنسانية. فهل حقق قانون 1999 ذلك؟؟

تدل المؤشرات والوقائع  على أن العكس قد حدث تماماً، أقلها سحب الصلاحيات التى كفلها قانون الآثار لعام 1952 لمدير الآثار الذى يشترط القانون فيه أن يكون متخصصاً دقيقاً في الآثار لكون تلك الصلاحيات تتطلب المعرفة والخبرة، ووضعها بيد لجنة الآثار التى كانت وفق القانون السابق جهة استشارية لمدير عام الآثار الذى هو مقرر لهذه اللجنة. التفسير المنطقي للتعديلات التى أدخلت على قانون الآثار يحتم علينا البحث عن الأسباب الكامنة وراء هذه السباحة العكسية للتيار العالمي ولنداء المنظمات العالمية، وفي مقدمتها منظمة اليونسكو، من ضرورة حماية التراث بكل ما يحمله مضمون الحماية. لا نرمي من ذلك التقليل من شأن اللجنة الحالية أو أعضائها، لكن الفكرة هى أن تكون الواجبات التنفيذية بيد الإدارة العامة للآثار والمتاحف القومية التى تضم الكوادر المتخصصة في المجال على أن يكون الإشراف العام من قبل لجنة قومية طالما أن الإدارة مسئولة عن تراث الأمة السودانية، لكن لا يجوز بحال وضع الكثير من الصلاحيات التنفيذية بيد لجنة استشارية. يجدر هنا أن آخر لجنة قومية للآثار كان قد تم تكوينها في عهد الديمقراطية الثالثة الموؤدة، شأنها شأن اللجان السابقة، بتوصية قدمها مدير عام الآثار والمتاحف القومية بناء على الضرورات التى تقضيها مشاريع حماية الآثار، ووافق عليها الوزير المختص وتمت اجازتها من قبل مجلس الوزراء. وعلى ما نذكر فقد ضمت تلك اللجنة السادة : وكيل وزارة الحكم المحلي، ووكيل وزارة الري، ووكيل وزارة التعليم العالي، ووكيل وزارة التخطيط، ومدير عام الشرطة، بالاضافة للعضو الدائم باللجنة (بحكم المنصب) وهو رئيس شعبة الآثار بجامعة الخرطوم، ومدير عام الإدارة العامة للآثار والمتاحف القومية (مقرراً).

لقد كانت من أبرز الاضاءات المشرقة في موضوع حماية الآثار، أنها تحميها الأسر والعشائر وبطون القبائل، وليس الخفراء سوى الممثلين المعتمدين رسمياً، وهم في مقدمة هذا التراتب الاجتماعي، فالمكلف الرسمي يحيط به أهله ويعتبرون أن مسئوليته مسئوليتهم وتمسي قضية مشتركة. خلق هذا الوضع مساحة معتبرة من انتشار ثقافة شعبية آثارية شجعتها السلطة على مر تاريخ السودان الحديث. وكان جل البلاغات التى ترد الى المصلحة تنبه الى المهددات الأمنية للمواقع المختلفة تندرج تحت هذا الفهم.

إلا أن تياراً كان قد بدأ يطل برأسه منذ أمد، كانت له رؤى مغايرة لما هو متفق عليه مما ذكرناه. مارس هذا التيار نشاطه في سلسلة من الرسائل المعنونة الى مدير عام الآثار يتوعد فيها أصحابها بتدمير الآثار، وفي أفضل الحالات استصدار الفتاوى بحرمتها وحرمة العمل في مجالها. إلا أن "الهجمة الشرسة" المرتكزة الى قاعدة أيديولوجية غايتها تدمير التراث، متكئة الى تفسير قاصر حين نظرت الى اللقي الآثارية المعروضة وتلك التى ما زالت في مواقعها على أساس أنها أسوة بأصنام العرب، والتى أسهب ابن الكلبي محمد بن السائب في وصفها وتقديم توضيح لجذورها وأماكن وجودها، وكيف أن الرسول r قد أمر بازالة بعض منها. كل ذلك صحيح. لكن المفارقة تكمن في الغاية والزمان الذى وقعت فيه تلك الأحداث. لقد كان العرب حديثي الفطام بين ممارسات موروثة تؤمن بعبادة تلك "الأصنام" وبين دعوة توحد الله الواحد الأحد. إذن كانت الخشية من الفتنة واختلاط الفهم الدافع لذلك. والآن بعد ألف وخمسمائة عام من التراكم المعرفي من يعتقد في تأليه تمثال؟ إن المفهوم نفسه قد تبدل وينظر إليه الجميع علىأساس أنه موقف تسجيلي لمرحلة من مراحل تطور الفكر الديني، ليس إلا! عليه فلا خوف من الفتنة أو الارتداد. ولو كان الأمر بهذه السذاجة لكان الخوف من أن يؤله الإنسان إنجازات التقنية الحديثة من حاسوب وأدوات اتصال.. الخ... إنها عقلية لازالت تعيش في لحظات الإلغاء التى قام بها الرسول r وما انفكت لا تراوح الزمان ولا المكان، والخوف عليهم حقاً أن تصيبهم الفتنة لا عباد الله من المؤمنين في خالقهم عن قناعة... الأمر لا يتعدى كون أن مقاييس التسلسل للتتابع التاريخي لا تسمح حذف صفحات من كتاب تاريخ أمتنا السودانوية وتحويله الى تسجيل مزاجي إنتقائي.

إن الأمر حقاً لخطير، إذ أن البعض قد اعتبر أن تدمير التماثيل "الأصنام"، أي آثار السودان، جهاداً تبذل دونه المهج!! وما التجربة الطالبانية ببعيدة عن زماننا، لكن اعتقادنا أن أبناء وبنات أمتنا السودانوية سيرددون قول الشاعر:
كناطح صخرة أبداً ليوهنها     فما وهنت وأوهى قرنه الوعل

تيار آخر يدرك التتابع التاريخي لمراحل تاريخ أمتنا السودانوية لكنه لا يقرها، ويرى أن تاريخ السودان يبدأ بإعتلاء أول ملك مسلم لعرش المقرة في النصف الثاني للقرن الرابع عشر أو بقيام أول دولة إسلامية في السودان في سنار بداية القرن السادس عشر، وكل حدث قبل سنار، "ثقافة تيه وضلال" إن هو إلا أمر جاهلي والإسلام يجب ما قبله. ونسي هؤلاء أن الإسلام في السودان قد جب ما قبله فعلاً في المعتقد الديني حيث سادت ثقافته، بمثلما فعل في شبه الجزيرة العربية والشام وبلاد الرافدين ومصر وغيرها، فعلى حد تعبير تريمنجهام "أينما حل العرب كان النصر حليفاً لدينهم"، لكن الإسلام لم يهدم المكونات المادية للحضارات السابقة له. ويخطئ هؤلاء كثيراً حين عميت بصائرهم من الوصول الى حقيقة أن كل أثر شاخص وعظيم سابق للإسلام يتواجد في دياره برهان على عظمة الإسلام نفسه، وتأكيد على أن الإسلام قد نجح في اقناع بناة تلك الحضار بالمنطق لا بالسيف بعدالة دعوته وسمو مراميها. وبالتالي يصبح الحفاظ على انجازاتها اظهار وتجسيد مرئي لقدرة الإسلام وعز له، وليس العكس كما توهموا.

ونفر من أتباع ذات التيار، وهم الأكثر "اتزاناً" و "واقعية" من بين أهل الكهف هؤلاء، فقد رأوا في الآثار طريقاً الى الثراء عن طريق الربح السريع، فكانت "التخريجة" الأيديولوجية التى يدين بها معهد الحضارة المُسمى، بأن الآثار مقام "الذهب والفضة الذى خلقه الله عز وجل في الأرض يوم خُلقت، فيه الخمس، فمن أصاب كنزاً عادياً في غير ملك أحد، فيه ذهب أو فضة أو جوهر أو ثياب، فإن في ذلك الخمس وأربعة أخماسه للذى أصابه وهو بمنزلة الغنيمة" (القاضي أبو يوسف، يعقوب بن إبراهيم، ديوان الخراج، المكتبة الأزهرية للتراث، القاهرة 1999، ص.32).

عليه ووفق فهمهم لهذا النص الذى أورده القاضي أبو يوسف في شروحه للمال والخراج للخليفة هارون الرشيد، فإن الآثار تعد ركازاً يطبق عليها حكمه. أما ما وجد منها على سطح الأرض فهو في حكم "اللقيطة". وبهذا البعد الأيديولوجي يصبح قانون حماية الآثار سواء لعام 1952 أو تعديله لعام 1999 في حكم الالغاء، وعلى أحسن الفروض التجميد الكلي لبنوده وفق رؤية أصحاب المصلحة الساعين للكسب المادي على حساب تراث أمتنا!! وما المستغرب هنا؟ فالذى أباح الثراء سفاحاً على حساب دم شعبه لا يعيبه أن يفعل ذلك.

وتعالوا الى كلمة سواء بيننا : إن التفسير المنطقي للنص الوارد أعلاه يكمن في الشرط الوارد فيه "... في غير ملك أحد"، فإذا ما علمنا أن الأرض قد أصبحت منذ أن رفض الخليفة عمر بن الخطاب تقسيمها بين أصحاب رسول الله بعد فتح أرض السواد حين كتب الى سعد بن أبي وقاص بأن يقسم الغنائم بين المقاتلين ويأمره أن "أترك الأرضين والأنهار لعمالها، ليكون ذلك من أعطيات المسلمين، فإنا لو قسمناها بين من حضر لم يكن لمن بعدهم شئ" (ابن سلام، ص. 74-75)، كما أمر عمرو بن العاص بفعل الشئ نفسه تجاه أرض مصر "لا تقسمها وذرهم يكون خراجهم فيئاً للمسلمين وقوة لهم على جهاد عدوهم" (ابن عبدالحكم، ص. 63).

إذن، أصبحت الأرض وما عليها من ملكية الدولة، بالتالي فإن الدولة هى التى تقرر بشأنها، وهنا فـ "الأحد" الذى أشار إليه القاضي أبو يوسف موجود وقائم وشاخص في هيئة الدولة، عليه يصبح ما تصدره من قوانين بشأنها ساري المفعول، وقانون حماية الآثار هو النافذ، إذن، الآثار ليست ركازاً بالمعنى الذى يطمح إليه معهد الحضارة، بل هى ملكية للدولة والشعب ولا يجوز التعامل معها إلا وفق ما ينظمه قانونها. أما التكالب على جمع الذهب والفضة كما يفهمون من الآثار وماهيتها، فإن الأجدر بهم أن يعودوا الى وعد الله للمكتنزين لهما ]يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون[ (التوبة : 35).

والأمر الذى يجب أن يتذكره هؤلاء أن قانون الآثار يحمي أيضاً الآثار الإسلامية، وأن فقه القاضي أبو يوسف كان له زمانه وموجبات ذلك الزمان، ويكفي أن القرآن الكريم قد نص في العديد من آياته على التاريخ والماضي وقصص الأولين: ]نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين[ (يوسف : 3)؛ ]لقد كان في قصصهم عبرة لأولى الألباب ما كان حديثاً يفترى ولكن تصديق الذى بين يديه وتفصيل كل شئ وهدى ورحمة لقوم يؤمنون[ (يوسف : 111)؛ ]وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين[ (هود : 120)؛ ]ذلك من أنباء القرى نقصه عليك منها قائم وحصيد[ (هود : 100)؛ ]ويسألونك عن ذي القرنين قل سأتلو عليكم منه ذكراً[ (الكهف : 83). وغيرها كثير، بل وخصصت أجزاء من القرآن الكريم لتبيان قصص الأولين. عليه فإن الإسلام قد حفظ قصص مراحل التاريخ الماضية وأوردها حتى تستفيد منها الأجيال، وحفظها في محكم تنزيله، وما الآثار إلا سجل حافل بماضيهم، فلا خلاف ولا افتراق ولا تصادم بين القرآن الكريم والبحث والتنقيب عن الآثار، ورحم الله ابن خلدون الذى اختصر علينا الكثير من المساجلات موضحاً أن التاريخ علم وفن فيه العبرة والموعظة لمن يعتبر. ولو تفحص هؤلاء حقاً في تاريخ السودان القديم الذى هو بين أيدينا بفضل علم الآثار ومعطياته الدالة لتجنب السودان الكثير من ممارساتهم الخرقاء التى لم تجلب علينا سوى الدمار.

السادة معهد حضارة السودان يمتلكون من الغباء ما يجعلهم يعتقدون بأنهم قادرون على تدمير الآثار دون اللجوء لأسلوب طالبان أفغانستان المباشر. هكذا تفتق ذهنهم عن فكرة شيطانية لأزالة موقع المصورات من الوجود خلال أعوام معدودات. شيدوا مسجداً في قلب الموقع الآثاري، وهو موقع في الصحراء لا يوجد به سوى الخفير الذى يقوم بحمايته، فلا بأس من بناء مسجد خاص له على الأقل قد يستفيد من النوم بداخله في الشتاء القارص بدلاً عن عشه المبني بالقش المكسو بالطين! وشيدوا فندقاً ضخماً ليستريح فيه الزوار للموقع لمدة لا تتجاوز ساعة زمان قبل مواصلة رحلتهم لزيارة النقعة والبجراوية! وينون زراعة حديقة ليحيلوا الصحراء الى جنة خضراء أسوة بالمرويين القدماء الذين أقاموا حدائق حول المعابد! حفروا بئراً لتوفير المياه لري الحدائق المزمع زراعتها!

ليس هناك أروع من مثل هذا المخطط، فالسادة معهد حضارة السودان يعملون بروح قومية عالية لتطوير الموقع وجعله "معهداً سياحياً جاذباً". هكذا يبدو الأمر للمواطن العادي، فما بالنا نصرخ، أو ليس لكوننا "ثورة مضادة" نقف ضد مشاريع التنمية، ونعادي مشاريع الإنقاذ الهادفة الى تطوير المواقع الآثارية!!!

الأمر في الواقع أن السادة معهد حضارة السودان يعلمون جيداً أن الصروح الآثارية الموجودة في الموقع والمكشوفة حالياً على السطح "الحوش الكبير، ومعبد الأله الأسد أبادماك وغيرها"، والتى تم ترميمها بجهد جهيد وبتكلفة مادية ضخمة وباسهام علمي رفيع المستوى قامت به وقدمته بعثة جامعة همبولدت (جمهورية ألمانيا الديمقراطية سابقاً) على مدى سنوات طوال باشراف البروفسور هنتزا، وتلك الصروح المعروفة لكنها لازالت مطمورة في باطن الأرض شيدت جميعها من الحجر الرملي النوبي، والذى من خصائصة عدم مقاومة الرطوبة التى تؤدي الى توالد الأملاح في داخله، والتى تأخذ بدورها في تفتيته تدريجياً - بداية بالخروج الى سطح الحجر مما يؤدي الى تفتت النقوش وسقوطها ومن ثم الى تفتت الكتل الحجرية وتحولها مع مرور الوقت الى ذرات رمال. انهم يعلمون ذلك جيداً وهم قد شاهدوا اجراءات حماية هذا النوع من الحجر في حديقة متحف السودان القومي للآثار، حيث أقيمت السقوف الضخمة المتحركة (الجملونات) التى تفتح صيفاً لتعريض المعابد (معبد بوهين، ومعبدي سمنة شرق وغرب، ونقش الملك دجر) لحرارة الشمس، واغلاقها لتصبح تلك الصروح داخل جملونات ضخمة من الحديد والزجاج في الخريف مع تسليط الاضاءة القوية للغاية عليها لسحب الرطوبة من داخل تلك الجملونات المتحركة. ومع ذلك ظلت إدارة الآثار تستنجد بمعهد صيانة الآثار التابع لليونسكو (مقره روما) سنوياً (على الأقل حتى نهاية العام الأول للإنقاذ) لتقديم العون لوقف التدهور الناتج عن الرطوبة والأملاح الذى تتعرض له هذه الصروح التى فرضت ظروف نشوء بحيرة ناصر في ستينات القرن المنصرم نقلها من بيئتها الصحراوية في الجندل الثاني وجبل شيخ سليمان وبوهين الى الخرطوم. لا بد وأن حب الاستطلاع قد يكون دفع بالسادة معهد حضارة السودان للتساؤل عن أسباب إقامة تلك الجملونات الضخمة المتحركة، وعن الاضاءة التى تسبب ارتفاعاً هائلاً في درجة الحرارة داخل تلك الجملونات المغلقة في فصل الخريف. ولا بد أن المرممين المتخصصين في الإدارة العامة للآثار والمتاحف القومية قد شرحوا لهم الفكرة من وراء مثل هذا الجهد. كما ولا بد أنهم قد أبانوا لهم حظر استخدام الأسمنت في عمليات ترميم الصروح الآثارية لكون الأسمنت يحتفط بالرطوبة ويؤدي بالتالي الى تفتيت الحجر الرملي، ولذلك يستخدم الجير المحروق في عمليات الترميم.

نعم السادة معهد حضارة السودان يعلمون سر الحجر الرملي، ونؤكد أن مدير المعهد ملم تماماً بهذا الخاصة للحجر الرملى فقد شرحتها له باسهاب (باشا) عندما كان يقوم في فترة الديمقراطية الثالثة الموؤدة بزيارة حديقة المتحف القومي بصورة شبه يومية لتناول طعام الإفطار في كافتريا المتحف (ما كان حينها مديرا للمعهد الذى لم يولد حينها بعد فهو جنين إنقاذي). من ثم "ليس في الإبداع أفضل مما يفعله الآن". الغرض الظاهري تطوير الموقع الآثاري في المصورات الصفراء ... عمليات حفر أساسات، وصب الأسمنت داخل التربة لشحنها بالرطوبة، ثم زراعة حدائق للتسريع بمعدلات تراكم الرطوبة ... النتيجة زوال آثار "ثقافة التيه والضلال" مرة وللأبد خلال سنوات، وبقاء أثر جديد قوي يصمد أمام عوامل التعرية والرطوبة ... أثر يدل على "الثقافة الإسلامية" وآخر يدل على "مشاريع التنمية الإنقاذوية للمواقع الآثارية" التى تدر الكثير من الأرباح "الفندقية"! الدمار لن يكون مسئولية الإنقاذ ومعهدها الذى يهدف الى إعادة كتابة تاريخ السودان ! وإنما مسئولية عوامل التعرية بفعل الرطوبة وهو أمر لا يلام عليه أحد !! نعم إعادة كتابة تاريخنا وفق هذا المنظور الإنقاذوي الإنسدادي تتطلب بالضرورة إزالة الكثير من الصروح الدالة على حضارة شهدها السودان منذ مراحل ما قبل التاريخ في الألفية السادسة قبل ميلاد السيد المسيح.

لكننا نقول للسادة معهد حضارة السودان وأيديولوجيته الإنقاذوية بأن تراث حضارتنا "السودانوية" لا يمثل مرحلة تاريخية بعينها، بل هو تراث حضاري سابق على التكوين الحديث للسودان وتال له فى الوقت نفسه، فهو جماع التاريخ المادي والمعنوي للأمة السودانوية منذ أقدم العصور الى الآن. إنه تراث ثقافى سودانوي أغنى من أن يحد بمرحلة حضارية واحدة، فمن كرمة ونبتة ومروى، ومن نوباديا والمقرة وعلوة، ومن سلطنة الفونج السنارية وتقلي والمسبعات، والدولة المهدية  ينحدر إلينا تراث ضخم ليس بمقدور الإنقاذ ومعهدها الشيطاني لحضارة السودان أن يزيله ذلك أنه فى حين أخذت الثقافات السودانية المحلية عن الحضارة العربية الإسلامية الوافدة فإن الأخيرة بلورت كينونتها السودانوية المتفردة وتشكلت بفعل العطاء الذى قدمته الأولى. فالثقافة فى جوهرها خاصة إنسانية تعتمد الأخذ والعطاء. الامتناع عن الأخذ من ثقافاتنا المتنوعة يا أهل الإنقاذ ويا معهد حضارة السودان هو تنكر لقيمة "العطاء" الذى أسهم به أجدادنا الأوائل فى إثراء التراث الإنساني.



من أجل إنقاذ هذا الموقع التاريخي الهام من عبث معهد حضارة السودان - أركامانى

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق