الأربعاء، 15 مارس 2017

مفهوم نمط الإنتاج الآسيوي هل يصلح أداة منهجية لدراسة تاريخ مملكة نبتة- مروى؟


أركامانى مجلة الآثار والأنثروبولوجيا الســـودانية

مجلة الآثار السودانوية/ العدد الثاني/ فبراير 2002
Osama Elnur, ASIATIC MODE OF PRODUCTION and Socio-Economic History of Napatan-Meroitic Kingdom
مفهوم نمط الإنتاج الآسيوي
هل يصلح أداة منهجية لدراسة تاريخ مملكة نبتة- مروى؟
إطار نظرى لتحليل التاريخ الاجتماعي الاقتصادى لمملكة نبتة - مروى
 د. أسامة عبدالرحمن النور



استهلال
قبل البدء فى دراسة أسلوب الإنتاج السائد فى مملكة نبتة مروى، وقبل حسم مسألة مدى الاستفادة الممكنة من المفاهيم التجريدية التى تم طرحها من قبل المفكرين الأوربيين، واستخدامها أداة تحليلية فى دراسة خصائص التطور الاقتصادي الاجتماعي للمجتمع فى السودان القديم، لا بدَّ من الإشادة بالمجهودات الهائلة التى قام بها لفيف من الباحثين العرب وغير العرب لمناقشة التعميمات السوسيولوجية الخاصة بتطور المجتمعات الشرقية والأفريقية عموماً. مجمل تلك الأبحاث والمجهودات القيمة شكلت قاعدة اتكأت عليها هذه الدراسة النظرية المدخلية علها تسهم الى حد ما فى طرح قاعدة منهجية تصلح أداة للنفاذ الى إشكالية خصائص التطور الثقافي والاقتصادي والاجتماعي لمملكة نبتة مروى. 

يبدو لنا أن العديد من الباحثين المعاصرين من العرب وغير العرب اتبعوا نهجاً نقول بأنه سعى الى استنباط عناصر من آراء المفكرين الأوربيين بدءاً من أرسطو مروراً بآراء كل من بيرنيه، وهارنجتون، وميكافيلى، ومونتسكيه، انتهاء بآراء آدم سميث، وهيجل، وكارل ماركس. ويلاحظ أن هؤلاء الباحثين أخذوا فى تطبيق ما استنبطوه من عناصر على المعطيات التاريخية مفترضين أن ذلك إنما يوازى التحليل النظرى غض النظر عن مدى صلاحية أو عدم صلاحية الصيغ التى اعتمدوا عليها. نتج عن مثل هذا الشكل من المعالجات وضع أصبحت معه العديد من الأبحاث التى تعرضت للمجتمعات الشرقية والأفريقية فاقدة لقاعدة نظرية دقيقة.

بصورة عامة نقول بأن المناقشات الدائرة حالياً حول أساليب الإنتاج التى سادت فى التركيبات الاجتماعية فى الشرق وأفريقيا قديماً ولازالت العديد من سماتها باقية، تميزت ببعض نقاط الضعف التى لا بدَّ لنا من الإشارة إليها إن كان فى نيتنا تجنب الوقوع فى الأخطاء النظرية. لدى دراسة أية ظاهرة من ظواهر الثقافة الإنسانية هناك مسألة تطرح نفسها، ابتداء، ومن غير الممكن السير قدماً فى المهمة قبل التوقف عندها ملياً، ألا وهى مسألة المفاهيم والتعريفات. فبدون هذه الخطوة المبدئية التى من شأنها تعريف المفهوم وتوضيح حدوده،  قد يجد الباحث نفسه وهو يلاحق ما هو بعيد عن موضوع دراسته، أو ينساق وراء جوانب ثانوية. على أن المشكلة التى تواجه الباحث عندما يحاول أن يستهل دراسته بتعريف المفاهيم وتوضيحها، هى أنه لا يستطيع التوصل الى تعريف مرضٍٍ قبل أن يكون قد قطع شوطاً واسعاً فى تقصى مفاهيمه. لأن التعريف الذى لا يأتى نتيجة الدراسة المتأنية والمعمقة، سوف يعكس أهواء الباحث ومواقفه المسبقة وإسقاطاته الخاصة، عوضاً عن أن يكون مرشداً موضوعياً له. من هنا، فإن الباحث يجد نفسه أمام مأزق فعلى يتعلق بالمنهج. ذلك أن التعريف المسبق أمر ضروري لأجل توضيح مجال البحث وتحديده، ولكنه فى الوقت نفسه لا يستطيع التوصل الى مثل هذا التعريف قبل أن يشبع مفاهيمه التى يعكف عليها بحثاً وتحليلاً.

من هنا فإننا نرى أن دراسة المفاهيم يجب أن تسير على مرحلتين. تهدف الأولى الى التوصل الى تعريف دقيق للمفهوم انطلاقا من تعريف مبدئي عام وفضفاض، من شأنه حصر مجهود الباحث وتركيزه ضمن قطاع عام أو مفهوم أشمل يحتوى المفهوم الأصغر الذى هو يصدده. أما المرحلة الثانية فتعود الى نقطة البداية مزودة بتعريف واضح ودقيق للمفهوم، وتُقبل عليه مجدداً وقد صار محدداً ومميزاً عن بقية المفاهيم المشابهة له أو المتداخلة معه.

لدى بذل محاولة طرح تأطير نظرى لدراسة أى مجتمع لا بدَّ وأن تكون البداية هى تناول مفهومين أساسيين : التركيبة الاجتماعية social formation، وأسلوب الإنتاج mode of production . هنا لا بدَّ من أن نقول بأن الباحث الفرنسي لوى ألتوسير قد أسهم إسهاماً رائداً فى البحث الجاري باتجاه التطوير الملموس لمفهوم التركيبة الاجتماعية عاداً إياها بمثابة "الممارسة الاجتماعية"، التى توجد ككل مركب يشتمل على عدة عناصر: الممارسة الاقتصادية، والممارسة السياسية، والممارسة الأيديولوجية، والممارسة النظرية (1). مجمل هذه العناصر فى وحدتها هو ما يمكن تسميته " بالممارسة الاجتماعية ". وبغض النظر عن خصائص كل عنصر من تلك العناصر فأن لكل واحد منها بنيته الخاصة غير المتبدلة التى يتم فى إطارها تحول المادة الخام الحاسمة الى منتوج محدد، تحول يتأثر بالضرورة بالعمل الذى يستخدم وسائل للإنتاج محددة، بالتالي فإن ما يسمى بالممارسة الاقتصادية تتطلب تحويل المواد الخام الطبيعية الى "منتجات اجتماعية" وذلك عبر الاستخدام الممن هج والمنتظم لوسائل العمل الإنساني [وسائل الإنتاج]، أما ما يسمى بالممارسة السياسية فتوجد فى شكل تحول يصيب العلاقات الاجتماعية السائدة خالقا علاقات جديدة، فى حين توجد الممارسة الأيديولوجية فى شكل التحول الذى يصيب العلاقات المعيشة "للذات" تجاه العالم عبر وسائل الصراع الأيديولوجي، وتوجد الممارسة الأخيرة، النظرية، فى شكل تحول المفاهيم القائمة فى إطار المعالجات الأيديولوجية الى معرفة عملية عبر وسيلة العمل التجريدي الذى يتحرك فى مجال المفاهيم التى تقوم بتحديد المجال الذى تطرح فيه إشكالية العلم. ويرى ألتوسير أنه فى إطار وحدة هذه الممارسات تظل الممارسة الاقتصادية بمثابة القوة الحاسمة فى التركيبة الإجنماعيَّة فى نهاية المطاف، وتظل هى بالتحديد التى تشكل بنية العلاقات الداخلية لمختلف العناصر الأخرى. رأى ألتوسير الأخير هذا سنعود لمناقشته فى وقت لاحق.

أما مفهوم أسلوب الإنتاج فيمكن تعريفه عبر تناول الممارسة الاقتصادية تحديداً. تحتوى هذه الممارسة الاقتصادية فى مستواها الأساسي أي الإنتاج عموماً- على عناصر محددة: المنتج ووسائل إنتاجه وموضوع العمل. إلا أنه فى ذات الوقت يوجد العامل غير المنتج الذى يقوم بالاستحواذ على العمل الفائض. ولتحقيق عملية الإنتاج وإنجازها لا بدَّ بالضرورة من التحام كل تلك العناصر. وتتم عملية الالتحام هذه عبر شكلين للعلاقات. الشكل الذى تتم به عملية الالتحام هو ما يميز المراحل المختلفة التى اصطلح على تسميتها بأساليب الإنتاج. إن فائض العمل القائم فى عمليات العمل والناتج عن كون الإنتاج قد تعدى حدود المتطلبات البسيطة لإعادة إنتاج ضرورات العمل المستخدم، يعطى هذا الفائض منتوجاً فائضاً خاضعاً لأشكال الانتزاع المتعددة فى المراحل المختلفة، أشكال الانتزاع تلك هى نتاج لعلاقات الإنتاج المحددة والتى تنشئ، بمجرد تأسيسها، نظاماً متفاوتاً لحيازة الملكيَّة والسيطرة على وسائل الإنتاج بالنسبة للعامل المنتج وللعامل غير المنتج. وتؤسس علاقات الإنتاج شكلاً سائداً لانتزاع فائض العمل فى أسلوب الإنتاج المعنى، وتكون لانتزاع فائض العمل هذا الأولويَّة على عمليات الإنتاج طالما أنه يقوم بتشكيل الأخيرة.

بالتالي فإن أسلوب الإنتاج المعين يوجد كوحدة خاصة مزدوجة لعدة عناصر ويؤلف نوعاً من التركيبة الخاصة لعلاقات الإنتاج، ولأشكال العمل، ويتم تشكله انطلاقا من علاقات الإنتاج السائدة. الأمر كذلك فانه من "الإنتاج عموماً، ومن ظواهره المشتركة" يكون بالامكان، كما يشير الى ذلك  ألتوسير، الإنطلاق لتحديد "الإنتاج بخاصة"، أى الإنتاج فى مرحلة معينة، كما يصبح بالامكان الإنطلاق لتحديد أسلوب الانتاج المحدد.

اذن طالما أن أسلوب الانتاج يوجد كتركيب مزدوج لعدة عناصر، وطالما أن هذا التركيب هو الذى سيحتم أياً من الممارسات (الاقتصادية، أوالسياسية، أو الأيديولوجية، أو النظرية) فانه يشكل العامل الحاسم فى إطار الممارسة الاجتماعية، ولذا فانه ولدى دراسة النظم الاقتصادية للمجتمعات السابقة لنشوء الرأسمالية، لا بدَّ بكل بساطة من تحديد الأشكال التى يتم فيها التحام تلك الممارسات، كما لا بدَّ من تحديد طبيعة تلك العناصر المزدوجة، طالما أن أي أسلوب للإنتاج إنما يوجد كبنية سائدة، كوحدة لأشكال للعمل مختلفة فى ظل سيادة أسلوب معين لانتزاع العمل الفائض الذى تحتمه سيادة علاقات إنتاجية محددة؛ بمعنى آخر فإنه من خلال وحدة العناصر المزدوجة المختلفة فى أسلوب الإنتاج تسود العلاقات التى يتم فى إطارها انتزاع العمل الفائض، تلك العلاقات التى من خلالها تتشكل عمليات الإنتاج. يعنى ذلك أنه لا يمكن لتحليل أى أسلوب للإنتاج الانطلاق من مجرد التعرف على العناصر ووحدتها فى عملية الإنتاج، أى من مجرد تقسيم العمل (2)، ذلك لأن إنجاز عملية انتزاع العمل الفائض لا يتم عبر عملية الإنتاج بالتحديد طالما أن عملية الإنتاج تعتمد فى حد ذاتها على عملية انتزاع العمل الفائض وتتشكل من خلالها، بالتالي فإن علاقات الإنتاج السائدة، العلاقات القائمة بين المنتج وغير المنتج، والتى تشكل الأساس المبدئي لتحليل خاصة أي أسلوب للإنتاج، ستظل غائبة بمجرد اختزال التحليل على مستوى عملية الإنتاج فحسب.

لقد وقع العديد من الباحثين فى مسائل المجتمعات الشرقية والأفريقية فى هذه الهوة، الأمر الذى أدى بهم الى تعميم استخدام مفهوم أسلوب معين للإنتاج الى درجة يفقد معها خاصته المميزة نهائياً، أو للدرجة التى يتم معها الخلط بين العلاقات الإنتاجية وعلاقات الاستحواذ، مثال ذلك التعريف الذى يطرحه شريف الدشونى لما يسمى بأسلوب الإنتاج الآسيوي الذى أشار إليه كارل ماركس فى عمله "مقدمة فى نقد الإقتصاد السياسي". يقول الدشونى أنه "بشكل عام وفى كثير من التجاوز يمكن للإنسان وصف هذه المجتمعات ذات النمط الآسيوي للإنتاج بأنها مجتمعات وسطية تتدرج من مجتمع لا طبقي (أولى) ومجتمع طبقي. العلاقات الطبقية والملكية الفردية لم تتبلور بوضوح بعد، فعلى الرغم من وجود ظاهرة العمل العبودى (فى قصور الملوك والأمراء) لا يمكن وصف المجتمع بشكل عام على أنه يعتمد على مثل هذا الشكل للعمل، لا يمثل هذا النوع من العمل العلاقات الأساسية لأن المجتمع العبودى يحتاج الى مستوى أعلى من الإنتاج والتجارة وجمع الثروة" (3). ولاشك أن مثل هذا التعريف يتنافى كلياً وخصائص أسلوب الإنتاج الشرقي المميزة طالما أنه يهمل مفهوم الدور الأساسي للري والأعمال الكبرى الأخرى وغياب الملكية الخاصة للأرض فى تأسيس هذا الأسلوب.

أما الباحث شينو فانه يذهب أبعد من الدشونى ويقول بأن "نمط الإنتاج الآسيوي مقولة ينبغي تحديدها بالنسبة للإنتاج ذاته، وينبغي أن تعبر عن العلاقات الاجتماعية المخلوقة تلبية لاحتياجات الإنتاج، "قانونه الأساسي" لا يمكن أن يظهر لا على مستوى تقنيات الإنتاج، ولا على مستوى المقتضيات الجغرافية (الرى وجفاف المناخ)، ولا على مستوى أشكال التنظيم الاجتماعي والسياسي (الأرستقراطية القبلية والبيروقراطية)، وإنما على مستوى الإنتاج نفسه... إن نمط الإنتاج هو شكل خاص نوعى من أشكال استغلال الطبيعة والإنسان معاً، ويتطلب نمط الإنتاج فى آن واحد تنظيماً تقنياً للعمل، وشكلاً للتعاون، وتنظيماً اجتماعياً للعمل، وشكلاً من أشكال الإكراه الاجتماعي، واذا نسقنا الملاحظات التى أبديت بهذا الخصوص وجدنا أن أسلوب الإنتاج الآسيوي يتميز بالجمع بين النشاط الجماعي للمشتركات القروية وبين التدخل الاقتصادي لسلطة دولة تستغل تلك الجماعات وتحكمها فى آن واحد ". وطرح شينو سؤالاً عما إذا كانت هذه الفكرة الخاصة "بالقيادة الاقتصادية العليا" تنطوي على وظائف أخرى "من قبيل ذلك مراقبة الدورات الزراعية، وصيانة الطرق ومراقبة أمنها، والحماية العسكرية للقرى ضد غارات البدو أو جيوش الغزاة الأجانب، وتتولى الدولة المسئولية المباشرة عن بعض قطاعات الإنتاج الصناعي التى تنمى طاقات المشاعات القروية، على سبيل المثال فى مجال المناجم والتعدين"(4).

لا شك أنه بتوسيع مفهوم أسلوب الإنتاج الآسيوي بهذه الصورة فإن الدشونى وشينو يجردان المفهوم من محتواه الفعلي أداة تحليلية، مثل هذه المحاولات لا تعنى شيئاً فى الواقع سوى تبسيط تجريدي للسمات المميزة لأسلوب الإنتاج الشرقي واختزالها فقط فى ما يميز أول بادرة لظهور الدولة والطبقات الحاكمة فى مجتمع لازال يقوم فى الأساس على قاعدة المشترك القروي. ولا شك فى امكانية إثبات حقيقة أنه فى كل حالة توجد الإتاوة التى تدفعها المشتركات القروية لمواجهة التكاليف التى تتطلبها المهام المرتبطة بالمصلحة العامة، بما فى ذلك المصلحة ذات الطابع المخيالى الديني أو السحري، وبالتدريج تبدأ الأرستقراطية القبلية فى الاستحواذ على تلك الإتاوات، وتتعايش لفترة انتقالية محددة "ديمقراطية" تقوم على قاعدة المشترك القروي مع حكومة ذات طابع استبدادي متزايد فى القمة.

بمجرد أن يتم تثبيت الاتجاه الخاطئ الذى يبسط أسلوب الإنتاج الشرقي ويختزله فى مجرد مفهوم يعبر عن واقع دمج المشترك القروى مع سلطة مركزية مستغلة (بالكسر) فإن الدشونى وشينو لا يجدان صعوبة فى اكتشاف ما يسمى بنمط الإنتاج الآسيوي فى أفريقيا فى مرحلة ما قبل الاستعمار الاوربى، وفى أمريكا ما قبل كولومبوس، بل حتى فى أوروبا الأبيضية المتوسطية (الثقافة الموكينية الكريتية)، لكننا نجد أنه بعد اكتمال عملية التبسيط تلك نكون قد فقدنا كل ما هو آسيوي، أو كل ما هو "شرقي" بالتحديد فى مثل هذه المقولة الشمولية الموسعة. وفى إعتقادى أن مثل هذا الخلط يبرز كنتيجة لعدم إدراك العلاقات الإنتاجية والتقسيم الاجتماعي للعمل، وهو ما يشكل الأساس الفعلي للبنية الطبقية نفسها.

هذه هى الهاوية الأولى التى لا بدَّ من تجاوزها لدى تحليل أساليب الإنتاج السابقة للرأسمالية فى الشرق وفى أفريقيا اذا ما أردنا تجنب وهم التعرف ببساطة على وحدة العناصر النظرية القائمة فى عملية الإنتاج. بعد ذلك يصبح الواجب المطروح أكثر صعوبة طالما أنه يتوجب الكشف عن علاقات الإنتاج التى تسمح بانتزاع العمل الفائض من المنتجين المباشرين فى أسلوب الإنتاج المدروس، هذه العلاقة لا بدَّ من تركيبها ليس عبر دراسة عملية الإنتاج، وإنما بالبدء فى تحليل مجمل عملية إعادة إنتاج النظام الاقتصادي فى علاقته بالتركيبة الاجتماعية نفسها. هذه هى المهمة التى تواجه البحث الحالي الذى يسعى الى تحليل أسلوب الإنتاج الذى ساد فى التركيبات الاجتماعية فى مملكة نبتة ومروى. لا بدَّ لنا من دراسة الإنتاج فى صلته بالأوجه الأخرى التداول والتوزيع الخ. وفى تركيبه التفصيلى مع المستويات الأخرى. فقط بعد هذا يصبح يمكننا طرح مسألة وجود علاقات الإنتاج المحددة التى تحتم نظام الإنتاج وتساعده فى إعادة إنتاج نفسه، والتى تعطى أساساً للانقسام الاجتماعي للعمل الذى تنشأ على قاعدته البنية الطبقية.

إذن ففي كل الحالات لا بدَّ لبحثنا أن ينطلق مبدئياً من تناول البنية الاقتصادية كنظام وأن يدرس التركيب التفصيلي لهذه البنية فى إطار التركيبة الاجتماعية، وأن يستخدم المفاهيم التجريدية الأساسية للمنهجية العملية بدلاً من تطبيقها ببساطة على عمليات الإنتاج المختلفة. فأسلوب الإنتاج لا بدَّ وأن يتم تحليله بوصفه بيئة تسود فيها علاقات الإنتاج على قوى الإنتاج، بحسبانه بنية تفرض فيها علاقات الإنتاج تطوراً محدداً لقوى الإنتاج. والحال كذلك فانه بدلاً من إنشاء صرح التحليل انطلاقا من الإصرار عل وجود التناقض بين علاقات الإنتاج وقوى الإنتاج، يكون من الأجدى البدء بتحليل النماذج المحددة للتطور والتى تفرضها علاقات إنتاج محددة على القوى الإنتاجية فى أساليب الإنتاج المختلفة. هذه النقطة بالتحديد ذات أهمية قصوى لدى تحليل التركيبات الاجتماعية فى الشرق وافريقيا طالما أنه يصبح بالامكان البدء فى تحليل تلك الأشكال الاجتماعية فقط فى حالة دينامية أسلوب الإنتاج السائد وكيف يمكن للتركيب التفصيلي لتلك الديناميات فى التركيبة الاجتماعية أن يُثبَّت إمكانية بروز عناصر أسلوب جديد للإنتاج.

إن مسألة الانتقال من أسلوب إنتاجي الى آخر تتم كالتحام لعمليات مختلفة: دينامية أسلوب الإنتاج السائد سابقاً، وتركيب العناصر الخاصة بالأسلوب الوليد، والتركيب التفصيلي لأساليب الإنتاج الأخرى فى التركيبة الاجتماعية لضمان تأسيس الأسلوب الجديد وإعادة إنتاجه. فقط عبر تحليل العلاقة المتبادلة بين تلك العمليات فى مرحلة الانتقال يصبح من الممكن تحديد خطة لدراسة التطور التاريخى الثقافي للمجتمعات الشرقية والأفريقية القديمة طالما أن تلك العمليات هى التى تعنى بالتحديد فى نهاية المطاف بنية تلك المجتمعات ونزعتها التطورية.

أسلوب الإنتاج الآسيوى وديناميته

بعد كل هذا ننتقل الآن الى طرح الأسس لتركيب مفهوم بنية وإعادة إنتاج أسلوب الإنتاج الذى ساد فى التركيبات الاجتماعية الشرقية القديمة وديناميته. نبدأ تناولنا للمسألة بإعطاء وصف شامل للخصائص الأساسية للتركيبة الاجتماعية التى يسود فيها باعتقادنا أسلوب نمط إنتاج آسيوي، ويعتمد تناولي على الحجم الهائل من المعطيات الآثارية  والابيجرافية والاثنوغرافية التى تراكمت بكميات لاحدود لها، والتى تلقى ضوءاً على مختلف جوانب الحياة فى المجتمعات الشرقية والأفريقية القديمة.

فى إطار التركيبات الاجتماعية الشرقية والأفريقية القديمة ينظم الإنتاج فى عمليات العمل على قاعدة المشترك القروي، وتتكون وحدة الإنتاج من أفراد العائلة الواحدة أو تركيب لعدة عوائل، وتكون تلك المشتركات محدودة مبدئياً فى إطار إنتاج المواد الخاصة باستهلاكها الذاتى، أما فيما يتعلق بتنظيم الإنتاج فى تقسيم العمل فإنه، فى الغالب، ما يكون شبيهاً الى حد ما للوصف الذى أعطاه هيجل لنظام المشتركات القروية فى الهند " فيما يتعلق بالملكية الخاصة فإن للبراهمة ميزة كبرى هى أنهم يدفعون ضرائب ويحصل الأمير على نصف دخل أرض الآخرين والنصف الباقى عليه أن يكفى تكاليف الزراعة ومؤونة العاملين فيها. والمشكلة البالغة الأهمية هى ما اذا كانت الأرض الزراعية فى الهند تُعتبر ملكاً للزراع أو ملكاً لمن يسمى بمالك المزرعة...ويقسم الدخل الذى يدخل لأية قرية كله قسمين أحدهما يخصص للأمير (الراجا) والقسم الآخر للمزارع. كما أن هناك أنصبة متناسبة تتوزع على عمدة المكان، والقاضي، ومراقب الماء، والبراهمى الذى يشرف على شئون العبادة، والمنجم (الذى هو كذلك أحد أفراد البراهمة وهو يعلن عن أيام السعد وأيام النحس)، والحداد، والنجار، والخزاف، والرجل الذى يجمع الملابس لغسلها، والحلاق، والطبيب، والراقصات من الفتيات، والموسيقى، والشاعر. وهذا الترتيب ثابت لا يتغير، ولا يخضع لمشيئة أحد. ولهذا فإن جميع الثورات السياسية تمر على الهندي بلا مبالاة لأن مصيره لا يتغير "(5).

كما أنه يمكن أن يشبه الوصف الذى أعطاه شايانوف "للاقتصاد الطبيعي" الذى كان قائماً فى روسيا فى القرن التاسع عشر "كل وحدة عائلية بعد أن تقوم بمبادلة بضائعها مع الوحدات العائلية الأخرى، بل وقد تكون المبادلة مع المشتركات القروية المجاورة، فإنها تسلم القيمة التى تشكل "المنتوج الاقتصادي الإجمالي" للوحدة، ومن ثم يتم اقتطاع جزء للمنصرفات الماديَّة الضروريَّة للعام من هذه القيمة ويتبقى بالتالى للعائلة الجزء من القيمة الذى أنتجته لاستعمالها الذاتي خلال العام، ثم تصبح هذه القيمة القاعدة التى يتم انطلاقا منها الإنتاج للعام المقبل"(6). النقطة الهامة هنا هى أن "دخل" الوحدة العائلية له محتماته الذاتية: حجم العائلة وتركيبها، وإنتاجية القوة العاملة فى العائلة. هذا العنصر المحتم الأخير  الذى يشكل أهمية قصوى بالنسبة لتخطيط إيراد العائلة، له أيضاً أسبابه الخاصة حسب رأى شايانوف "إن درجة الاستغلال الذاتي تُحدد عبر توازن معين بين احتياج العائلة للاكتفاء الذاتي من جانب، وحجم الكد والعناء الضروري للعمل نفسه من الجانب الآخر، كل وحدة نقدية لمنتوج عمل العائلة المتزايد يمكن النظر إليها من منطلقين: أولاً من حيث أهميتها للاستهلاك من أجل إشباع احتياجات العائلة، وثانياً من حيث حجم الكد والعناء المبذول لاكتسابها"(7). ومن الواضح أنه بازدياد المنتوج المكتسب عبر العمل المضني فإن أهمية التقدير الذاتي لكل وحدة نقدية جديدة مكتسبة للاستهلاك تقل، لكن الكد والعناء المبذول لاكتسابها والذى سيتطلب قدراً متصاعداً من الاستغلال سيرتفع، طالما لم يتم التوازن بين العنصرين، بمعنى طالما ظل الكد والعناء فى العمل يقدر ذاتياً باعتباره أقل أهمية من الاحتياجات التى بذل العمل من أجل تغطيتها، فإن العائلة تمتلك صلاحية الاستمرار فى نشاطها الاقتصادي بدون عمل مدفوع الأجر. "بمجرد الوصول الى هذا التوازن فإن منصرفات العمل اللاحق تصبح أكثر صعوبة للفلاح أو الحرفى"(8).

ينحصر موضوع الإنتاج فى الوحدة العائلية بالتالي فى الوصول الى نقطة التوازن هذه حيث يصبح من الممكن تغطية احتياجات العائلة، وحيث لا يُقيَّم حجم الكد والعناء كمجهود يتجاوز الحدود بالمقارنة مع النجاح فى تحقيق تلك الاحتياجات وتلبيتها، وبمجرد الوصول الى هذه النقطة فان الإنتاج اللاحق يصبح، حسب شايانوف، بدون هدف.

هذا وتقوم العائلة باستغلال الشروط الطبيعية (فى شكل تركيبها الذاتي، أي النسبة المتبدلة دوماً للمنتجين بالنسبة للمستهلكين خلال الأجيال المتعاقبة)، والتبادل وما الى ذلك لتحقيق التوازن، وهو ما يعنى أن النزعة الى زيادة الإيراد، عبر مراكمة رأس المال واستغلال أراضى زراعية جديدة، تظل محدودة بتركيب قوة العمل فى العائلة، وبحجم الكد والعناء المبذول فى العمل بالنسبة لاحتياجات المستهلكين، إذا أصبح من الممكن التوصل الى نقطة التوازن الذاتي عبر استغلال قوة عمل العائلة فلا داعي ولا حاجة بكل بساطة الى زيادة حجم الكد والعناء بزراعة أراضى جديدة، أو العمل على تحسين الإنتاجية باستخدام الدخل المتوفر لشراء أدوات أكثر فاعلية، أما اذا تعذر تحقيق التوازن، على سبيل المثال عندما يعمل الزوجان لإعالة أطفالهما الصغار غير المنتجين، فان الخطوات المذكورة يمكن إتباعها لفترة مؤقتة لتهجر من جديد بمجرد الوصول الى التوازن، بالتالي فإن لاستخدام جزء من الدخل لشراء أدوات جديدة أو لزراعة أراضٍٍ إضافية يصبح مقبولاً بالنسبة للوحدة العائلية فقط فى حالة إمكانية تحقيق توازن جديد فى فترة وجيزة وبمنصرفات عمل أقل كداً وعناءً، ويعود بإشباع أكبر لاستهلاك العائلة، وبمجرد التوصل الى تلك النقطة يمكن الاستغناء عن تلك الخطوات.

إذا صحت فرضيتنا بشأن سيادة مثل هذا الشكل من التنظيم الاقتصادي فى مجتمعات الشرق القديم فإنه يجوز القول بأن عملية العمل التى سادت فى تلك المجتمعات تميزت بوجود نزعة دائمة لإعادة إنتاج الشروط الضرورية للمتطلبات الاستهلاكية للعائلة، ويشكل هذا بالتالي موضوع الإنتاج. لكن يبرز هنا سؤال بخصوص النشاطات اللازراعية فى هذا النوع من تقسيم العمل. تعتمد الحرف الصناعية الصغيرة التى وجدت على احتياجات هذا الإنتاج أو على المتطلبات المباشرة للمشترك القروي. يبدو عمل الحرفي فى أسلوب الإنتاج فى مجتمعات الشرق القديم وكأنما هو محدود على الفترات التى لا يكون فيها كل وقت العمل مستخدماً فى عملية الإنتاج الزراعي. فى هذا النشاط الحرفي، كما هو الحال فى الإنتاج الزراعي، يُنظم المشترك القروي بالشكل الذى يكفل إنتاج القيم الاستعمالية للاستهلاك المباشر. ومع تطور أسلوب الإنتاج الشرقي القديم يظل هذا التنظيم قائم لكنه يُستكمل بالإكثار من إنتاج البضائع من أجل التبادل (القيمة التبادلية) إما مع المشتركات الأخرى والدولة، أو عبر الدولة مع التركيبات الاجتماعية الأخرى. بهذا يبدو أنه وبتطور أسلوب الإنتاج الشرقي القديم تبدأ عملية تجاوز"المطلقية" الزراعية والحرفيَّة الأصيلة للمشتركات القروية، هذا ما يمكن ملاحظته على سبيل المثال فى بابل حمورابى حيث أنه وتحت احتكار الدولة تتم عملية إنتاج المحاصيل الزراعية وتنظيمها ومبادلتها مع الدول المجاورة، وفى إطار التبادل الداخلى بين المشتركات القروية. هذه العملية الخاصة بدعم إنتاج القيم التبادلية لإنتاج القيم الاستهلاكيَّة يتبعها عموماً فى الشرق القديم التحول الى الاقتصاد النقدي، واستيراد الدولة للبضائع من قبل مؤسساتها الخاصة ولتنظيم وسائل الإنتاج أو لاحتياجاتها الأيديولوجية. هذا التحول بالذات هو الذى فسر تفسيراً خاطئاً من جانب ماكس فيبر باعتباره تحولاً نحو نظام رأسمالية الدولة فى المجتمعات الشرقية القديمة (9).

النقطة الهامة التى لا بدَّ من التعرض لها هنا هى أنه بالرغم من أن عملية إنتاج القيم التبادلية تشكل نزعة عامة فى إطار أسلوب الإنتاج الشرقى القديم، فانها تظل نزعة محدودة فى الأطر المرسومة من قبل الدولة نفسها. فرضيتنا هذه تحتم علينا تحليل مسألة تدخل الدولة الشرقية القديمة فى العملية الإنتاجية. فكما كان الحال فى كافة أساليب الإنتاج التى سبقت نشوء النظام الرأسمالى، فان الدولة فى الشرق القديم استحوذت على العمل الفائض للمشتركات القروية عادة فى شكل ريع عينى، وهو ما تطلب بالضرورة استخدام العمل بدرجة أعلى وأبعد مما هو مطلوب لتغطية إحتياجات الاستهلاك والتبادل المحلى. على كل فإن ما يميز أسلوب الإنتاج فى الشرق القديم عن الأساليب الإنتاجية الأخرى هو أن الدولة فى الشرق القديم قامت بدور هام دوماً فى إعادة إنتاج الشروط المسبقة للإنتاج نفسه، وبهذا الشكل، كما سنوضح، فأن الدور الذى تقوم به الدولة فى عملية الإنتاج يسهم فى إعادة إنتاج أسلوب الإنتاج الشرقى القديم نفسه.
  

دور الدولة فى المجتمعات ذات النمط الآسيوى

 تقوم الدولة فى أسلوب الإنتاج الذى ساد فى التركيبات الاجتماعية ذات النمط الآسيوي بوظيفة اقتصادية هامة للغاية وذلك بفعل تدخلها فى الاقتصاد القروي سواء عبر تنظيم وقت العمل الفائض للعمل الجماعي القروي الموجه لتشييد منشئات الرى المختلفة والضرورية لعملية الإنتاج الزراعي للقرى، أو عبر التوزيع الموسمي لأراضى تلك القرى لمواجهة المتطلبات الديموغرافية المتبدلة للقرى المختلفة، أو عبر تنظيم سبل تخزين المنتوج لتغطية الاحتياجات فى السنوات العجاف، أو عبر تنظيم الدورة الزراعية للمحاصيل، أو عبر إنتاج المواد الخام للإنتاج الزراعى وتوزيعها (المناجم والتعدين)، وبالتالي فإن الدولة تقوم بدور واضح وهام فى عملية الإنتاج، وبهذا فإنها تسهم إسهاماً مباشراً وبفاعلية فى عملية الإنتاج ذاتها، وكنتيجة فإن إعادة إنتاج الإنتاج والاستهلاك القروي تتم عبر المشاركة المباشرة للدولة من خلال وظيفتها التنظيمية.

وتقوم الدولة فى التركيبات الاجتماعية ذات النمط الآسيوي بانتزاع العمل الفائض من المشتركات القروية فى شكل عمل جماعي منجز كوسيلة للإنتاج. وبالإضافة فإنها تنتزع أيضاً فائضاً فى شكل ضريبة تُدفع لها. علاقة الإنتاج التى تحكم انتزاع العمل الفائض فى التركيبات الاجتماعية ذات النمط الآسيوي هى العلاقة القائمة بين القرية والدولة، هذه العلاقة الإنتاجية، كما سنوضح، هى التى تشكل عمليات العمل الفاعلة فى تقسيم العمل فى القرى. إن انتزاع الدولة للعمل الفائض، ودورها الوظيفي التنظيمي فى عملية الإنتاج يتم التعبير عنه من خلال "ملكية" محددة أيديولوجياً للمنطقة التى يتم فيها الإنتاج، ومن خلال السيطرة اللاحقة عليها، فى كل حالة فإن الدولة تمتلك الأرض وتسيطر عليها، والدولة هى التى يتم تحديدها أيديولوجياً بوصفها المالك الأوحد لكل الأراضي (10). بالتالي فإن الدولة تمتلك الحق فى تحجيم أى تطور للملكيّ ة الفردية للأرض، وكنتيجة فهى تمتلك حق حظر استثمار تراكمات رأس المال المستخرج إما من التجارة أو من الانتفاع من الأملاك. هكذا نكون قد أبرزنا عدداً من المظاهر التى ميزت أسلوب الإنتاج الآسيوي، وننتقل الآن الى تلمس تنظيم الدولة فى التركيبات الاجتماعية ذات النمط الآسيوي.

عموماً يمكن الإشارة الى ثلاثة فروع رئيسة لتنظيم الدولة فى النمط الآسيوي للإنتاج:
1- تنظيم عسكري مكون من جيش ضخم يجند من القرى للدفاع عن الدولة ضد الدول المنافسة.
2- تنظيم إداري يحكم الأقاليم ويشرف على مسئولية التجنيد، والتوظيف، وتدريب الموظفين، وجمع الضرائب ومالية الدولة، والاحتفالات، وتحقيق العدالة.
3- تنظيم الأعمال العامة، وإدارة الصناعة التابعة للدولة، وتنظيم التجارة الداخلية والخارجية.          

فلتكن النقطة الثانية بداية لتناولنا لتنظيم الدولة: من يمتلك السلطة فى إطار التنظيم الإداري؟ أذا أخذنا المعطيات المتوفرة لنا عن مصر الفرعونية أو كوش أو الجزيرة الفراتية أو جنوب الجزيرة العربية أو فارس أو الهند أو الصين فإننا نجد أن سلطة الدولة تنتقل حسب النظم القرابية، بالتالي تعتمد على ملك فردى قوى يكون حكمه شرعياً عبر الميلاد والنسب والتقاليد، والجهاز الفعلي للدولة، بغض النظر عن شكل الإدارة المركزية أو اللامركزية، يمكن تقسيمه الى إدارات تخضع لسيطرة سلك كامل من الموظفين الذين يقومون بأداء الوظائف الطقوسية والإدارية والدينية والفكرية وغيرها، ولكن على قمة هذا الجهاز يوجد الملك وأفراد عائلته وأقاربه. إن الأيديولوجيات التى يعبر من خلالها عن السلطة السياسية للملك، والمفهوم العام للعلاقة بين الملك والدولة من جانب، والمشتركات القروية من جانب آخر فى التركيبات الاجتماعية المميزة لأفريقيا والشرق القديم، تنطوي على عناصر تتواتر بصورة متكررة. سنحاول هنا إعطاء تلخيص مقتضب لنتائج الكم الهائل من الأبحاث التى كتبت حول الموضوع من خلال التركيز على النموذج السومرى.

بالنسبة لمؤسسة "الملك المؤله" فإن أسطورة ايتانا والنسر السومرية تجسد حالة تساعد فى استكشاف العامل الأيديولوجي الكامن فى أساس مفهوم الملكية فى الشرق القديم. النص الأقدم لهذه الأسطورة كان قد وصل إلينا من العصر البابلى القديم (2000- 1600 ق.م.) وعثر عليه فى موقع مدينة سوسة العاصمة العيلامية، كما وصلنا نص آخر من العصر الآشوري الوسيط 1600-1000 ق.م.، ونص ثالث من مكتبة آشور بن بعل من نينوى يعود للقرن السابع قبل الميلادي وهو النص الأكثر اكتمالا ووضوحاً من بين تلك النصوص.

تدور أحداث القصة فى الأزمان الأولى عندما كان الآلهة يقومون بمهمة خلق الجهات الأربع، ويضعون مخططاً لبناء أول مدينة للبشر هى مدينة كيش. فبعد أن انتهوا من أعمال الخلق والتنظيم أسسوا منصب الملوكية، وراحوا يبحثون عن شخص مناسب ينصبونه ملكاً على المدينة، ليكون حاكماً صالحاً للناس فوقع اختيارهم أخيراً على إيتانا:
الآلهة الكبار الذين يقدرون المصائر،
جلسوا، تشاوروا فى أمور البلاد
بينما كانوا يخلقون جهات العالم الأربع ويصوغون شكله
لم يكونوا قد أقاموا ملكاً على الناس قاطبة
ولم يكن التاج وعصابة الرأس، حينئذ قد أوثقا معاً (11)
ولم يكن أحد بعد قد توج بصولجان الملك
ولم تكن منصة العرش أيضاً قد رفعت
بعد ذلك هبطت الملكية من السماء
كانت عشتار فى ذلك الوقت تبحث عن راع
كانت تبحث هنا وهناك عن ملك
وإنليل يبحث عن منصة عرش لإيتانا
الشاب الذى كانت عشتار لا تنى تبحث عنه.

هكذا وقع اختيار الآلهة على إيتانا ليكون أول ملك أقيم لحكم الناس. لكن ماذا بشأن ميكانيزم توريث الملكية بعد أن هبطت من السماء؟

متن الأسطورة يتألف من قصتين. بعد صعود إيتانا على عرش كيش، نمت شجرة عملاقة وارفة الظلال.. جاءت اليها حيَّة متخذة من قاعدتها وكراً لها ولصغارها، ثم حط على قمتها نسر فصنع له ولفراخه عشاً. تعاهد الإثنان على العيش بسلام وعلى إقتسام الطعام فيما بينهما.. ووثقا عهدهما هذا بالقسم أمام الإله شمش، إله الحق والعدالة، على إحترام الاتفاق وعدم النكوص بالعهد. إلا أن النسر بعد أن كبر فروخه أضمر فى قلبه شراً وراح يتحين الفرص لأكل صغار الحيَّة. ورغم نصيحة فرخه فقد انتهز النسر غياب الحيَّة وانقضَّ وأكل صغارها وهرب.

تضرعت الحيَّة أمام الإله شمش أن يثأر لها من النسر. استجاب شمش فرسم للحيَّة خطة توقع بالنسر.. سيدفع شمش لها ثوراً مقيداً فى الفلاة، وعليها أن تقتلع وتختبئ فى أحشائه.. وعندما يأتى النسر مع بقية الطيور ليأكل من الجيفة فعليها أن تنقض عليه فتنزع مخالبه وتنتف ريش أجنحته، ثم ترميه فى حفرة عميقة ليموت هناك من الجوع والعطش. وبعد أن تم للحيَّة تنفيذ الخطة بنجاح راح النسر فى كل يوم يتضرع الى شمش لينقذه من ورطته فقال له شمش: 
أنت مخلوق مؤذ وشرير، وقد أحزنت قلبى
لقد ارتكبت فعلاً مرذولاً من قبل الآلهة، لا يقبل الصفح
ها أنت تموت ولكني لن أقترب منك
سأبعث لك رجلاً فأطلب منه عوناً.

وتبدأ القصة الثانية التى تعود بنا الى إيتانا الصالح. فايتانا عاقر وقد شارف على الشيخوخة دون أن يرزق بغلام يخلفه على العرش. ويعلم إيتانا عن نبتة مزروعة فى السماء تشفى من العقم، فيدعو الإله شمش أن يجعل النبتة فى متناول يده. يدله شمش على مكان النسر الحبيس فى قاع حفرة، فيحرره إيتانا ويشفيه لقاء أن يطير به الى السماوات العلا لجلب نبتة الإخصاب التى تتعهدها عشتار بالرعاية والسقاية. ويصل إيتانا والنسر الى سماء آنو. هكذا جاءت "بذرة الملكية" من السماء ذلك أننا نعرف من وثيقة "ثبت ملوك سومر" أن الملك إيتانا كان أول ملك على كيش بعد الطوفان، وأنه الذى أسس سلالة كيش الأولى، وأن وريثه على العرش كان ابنه المدعو بالح.

إن لدينا من الأسباب ما يرجع تاريخ هذه الأسطورة الى مطلع عصر السلالات فى سومر (حوالي2600  ق.م.). فرغم أن أقدم نص لها، وهو النص البابلي القديم كما أشرنا، يرجع الى مطلع الألفية الثانية قبل الميلاد، فأن العثور على عدد من الأختام الاسطوانية التى ترجع الى عصر سارجون (حوالى 2300 ق.م.)، والتى نرى عليها مشهداً يمثل صعود إنسان ما الى السماء على ظهر نسر، يؤكد لنا أن أسطورة إيتانا كانت معروفة خلال أواسط الألفية الثالثة قبل الميلاد، وأن جذورها تضرب أبعد من ذلك فى عصر السلالات الأولى، والى زمن قريب من صعود أسرة كيش الأولى.

السؤال هو ما معنى هذه الأسطورة؟  وما هى الرسالة التى تحملها لنا؟

رغم إحتواء الأسطورة على قصتين غير متجانستين فإن رسالتها واضحة. فالهاجس الرئيس هو التأسيس لأصل مؤسسة الملكية التى "هبطت من السماء". فهى بهذا، كما يشير محقاً فراس السواح، "أسطورة أصول، وتنتمى الى تلك الزمرة من أساطير الأصول التى تهدف الى تبرير المؤسسات الاجتماعية القائمة وتجذيرها فى البدايات الميثولوجية الأولى، من أجل إسباغ طابع القداسة عليها". أما معنى قصة الحيَّة والنسر فقد فسرها فراس السواح بصورة أجد جدوى فيها حيث استبعد التفسير الذى يرى فى قصة الحية والنسر مجرد حكاية ذات طابع تشويقى تم إدماجها فى السياق العام للقصة الرئيسة لأغراض أدبية محضة. ففى رأيه أن التلازم الطويل بين القصتين فى جميع النصوص التى وصلتنا من الأسطورة، وعبر أكثر من ألف عام، يدفعنا الى استبعاد هذا التفسير. ويرى فراس أن التجربة مع الحيَّة تتضمن حدثين قادا الى حدث ثالث هو مركز القصة بكاملها. ويرى فى الحدثين الأولين مرحلتين فى طقس عبور وتعدية. فى المرحلة الأولى يأكل النسر صغار الحيَّة، وفى المرحلة الثانية يلقى بالنسر فى قاع حفرة عميقة فى باطن الأرض. فأما أكل صغار الحيَّة فهو إجراء طقسى يؤدى الى إكساب النسر قوى تتعلق بالإخصاب، لأن الحيَّة هى رمز للخصوبة فى ثقافات الشرق القديم ورمز للشفاء أيضاً. وأما الهبوط الى قاع الحفرة المظلم فهو إجراء طقسى آخر مشابه من حيث الغاية. فلقد كان على النسر أن يموت رمزياً فى باطن الأرض- الأم لكى يبعث من جديد معافى ومزوداً بقوى تتعلق أيضاً بالإخصاب زودته بها ننخرساج، الأرض. أما الشجرة التى كانت مسرح الصراع بين النسر والحيَّة، فتمثل مبدأ الحياة الذى قوامه قطبان: الموجب والسالب؛ المبدأ الذكرى والمبدأ الأنثوي. وهنا يتجسد المبدأ الذكرى فى النسر الذى يسكن قمة الشجرة ويطير فى السماء، وتجسد الحيَّة المبدأ الأنثوى الملتصق بالأرض. وما الصراع بين النسر والحيَّة إلا تمثيل للتناقض بين المبدئين. لقد هبط النسر أولاً من القمة الى الأرض حيث جحر الحيَّة، ثم هبط أعمق من ذلك فى غياهب البئر حيث رحم الأرض، لينطلق بعد ذلك فى طلب النبتة التى تتعهدها بالرعاية عشتار إلهة الخصوبة الكونية. هذا المغزى السرانى لعلاقة النسر بالحيَّة يفسر لنا عدم جدية العقاب الذى تعرض له النسر، ومسارعة الإله شمش الى العفو عنه ليوكل اليه المهمة التى صار الآن صالحاً لها، بعد أن تحول من خلال الطقس الذى مرَّ به، من نسر عادى الى نسر قادر على إتمام مهام لا يقدر عليها غيره.

هكذا يتضح أن مفهوم الحكم الملكي فى المجتمعات ذات النمط الآسيوي يتلخص بصورة عامة فى وجود وحدة مزعومة بين الكون والإله (أو الآلهة)، والملك المؤله أو شبه المؤله، ومن ثم بين العنصرين السابقين والوظائف السياسية والاقتصادية والقانونية التى ينفذها الملك بالنسبة للمشتركات القروية، والدولة التى يتم تحديد وظائفها كونياً، وعملية الإنتاج وخصوبة التربة. تنحصر مهمة الملك (الموجه من قبل الإله أو الآلهة) فى ضمان الرخاء الاقتصادي للمشتركات القروية، ويقوم الملك بتنفيذ هذه المهمة عبر تنظيم وسائل الري الاصطناعي وسبله، والأعمال العامة انطلاقا من معرفته للدورات الفصلية التى تحكم عملية الإنتاج الزراعي، وانطلاقا من قيامه بتنظيم سبل تخزين المحاصيل وتبادل البضائع وما الى ذلك. عبر تلك النشاطات يضمن الملك الخصوبة الزراعية، وكبديل لمجمل تلك الخدمات التى يقدمها الملك يدفع التابعون الإتاوة له فى شكل خدمات أو ضرائب وما الى ذلك، ويتبع الملك دوماً إرشادات الإله (أو الآلهة) وبالتالي فإن مهامه دائماً ما يتم التعبير عنها من خلال الرموز والشعائر الدينية مما يتطلب استخدام ما يتم الاستحواذ عليه من فائض فى عملية تشييد المعابد وسواها من المنشئات الرمزية الأخرى، هذا بالإضافة الى إعالة مؤسسة كاملة من الموظفين الدينيين الذين من واجبهم ضمان مساعي الملك، وكنتيجة فإن ممارسة الملك والمشتركات القروية يتم تحويلها الى نوع من الفتشية، فالعلاقات الفعلية الموجودة بين الملك والمشتركات القروية، وبالضرورة بين الدولة والمشتركات، تبدو بشكل مقلوب فى أيديولوجية النظام الملكي، بالتالي فإن ما يبدو أيديولوجياً بحسبانه صفات إلهية مميزة للملك (تنظيم الأعمال العامة وإعادة توزيع الأرض) ما هى إلا مجرد نتائج لوظيفته التى يؤديها فى الاستحواذ على العمل الفائض وتوزيعه واستخدامه. فالملك الذى تتجسد فيه أيديولوجياً صفة "الراعي" للخصوبة يمكنه أن يكون كذلك فقط وفقط فى حالة سيادة العلاقات الاستغلالية الطابع بين الدولة والمشتركات القروية، كذلك فإن الطقوس التى تضمن الممارسة "الصحيحة" للملك يمكن أن توجد كأثر ناجم عن توزيع الإتاوة المنجزة وما الى ذلك. هذه الفتشية يمكن رؤيتها وهى تصل الى ذروتها عند حدوث عجز فى المحصول أو تدنٍٍ فى عائدات التبادل، ويتم إرجاع ذلك الى عدم صلاحيَّة الملك أو الى عدم إلتزامه بصورة سليمة بالطقوس، ومن ثمَّ ظهور تقليد اغتيال الملك طقوسياً لدى بعض شعوب الشرق القديم (12).

إضافة الى تلك السمات المميزة لأسلوب الإنتاج الذى ساد فى التركيبات الاجتماعية ذات النمط الآسيوي والمتمثلة فى أشكال انتزاع الفائض، والتدخل الضروري من قبل الدولة فى عمليات العمل، ودور الدولة التنظيمي الناشئ عن سيطرتها المطلقة على توزيع الفائض المنجز، والشكل الخاص للسلطة الملكية والأيدولوجيا السائدة، فاننا نرى ضرورة التعرض لسمة أخرى هامة للغاية تتعلق بدينامية مثل هذا الأسلوب، وهى سمة عدم التبدل التى أشار إليها هيجل. فكما أشرت فإن القرى فى الشرق القديم كانت فى الأساس وحدات يمكنها أن تعيش فى ظل سيادة أشكال مختلفة لسلطة الدولة. وبغض النظر عن تمركز السلطة بيد أى من المجموعات القرابية أو العائلة أو الملك فإن المشتركات القروية تظل تعيش وتتلقى مساعدة الدولة التى تقوم بالوظائف الاقتصاديَّة التى ذكرتها آنفاً تجاه المشتركات. بالتالي يبدو أن التركيبة الاجتماعية فى الشرق القديم ظلت تحتفظ بثبات بنيتها الكلية بالرغم من عدم استقرار السلطة السياسية فيها (أسرة أو سلالة حاكمة تحل محل الأخرى فى جهاز الدولة). تتكون النظم السياسية الجديدة دائماً بالاعتماد على القاعدة الاقتصادية للقرى، إلا أن هذا لا تأثير له، حتى فى حالة وجود التأثير فانه لا يتعدى مجرد التأثير المحدود على عملية إعادة إنتاج الأسلوب نفسه، وعليه فإن تاريخ تركيبات اجتماعية مثل مصر القديمة وفارس وغيرهما يتميز بالتقلبات السياسية السطحية فى حين تظل بنيتها الكلية فى الأساس غير متبدلة خلال القرون الطويلة من عمر تلك التركيبات الاجتماعية.

هذه إذن الخاصة اللاحقة لأسلوب الإنتاج الذى ساد فى أفريقيا والشرق القديم، تاريخه المتقلب لكنه غير المتبدل، ظاهرة تنتج عن تبدل الحكام السياسيين المتعاقبين الذين يحتلون مركز السلطة عبر سلسلة النسب والتقاليد الأمر الذى يعبر عنه، كما أشرنا، من خلال الأيديولوجيات الدينية والفلسفية المتجسدة فى شعائر وممارسات سلطة الدولة السياسيَّة. ففى الوقت الذى يحتاج فيه الملك لجهاز الدولة لتنفيذ قراراته، فإن سلطته وحقوقه على نظام الإنتاج لها قاعدتها الشرعية والأيديولوجية بعكس النظام الإقطاعي (الذى يدعى بعض الباحثين وجوده فى المجتمعات الافريقية والشرقية القديمة) (13)، والذى يكون فيه حق الإقطاعي فى الإستحواذ على الفائض فى شكل ريع الأرض ممكناً عبر تدخل الممارسة السياسيَّة، ففى أسلوب الإنتاج الذى ساد فى الشرق القديم يتم إنتزاع العمل الفائض من قبل الملك الذى يمتلك "حقاً أيديولوجياً" على ذلك الفائض، حقاً يجد تقبلاً من جانب المشتركات القروية، ويجد تعبيراً له فى الدين والفن والأدب وما الى ذلك. هذا بالطبع ما يؤدى الى ذات الفتشية فى الممارسة الأيديولوجية فى التركيبات الاجتماعية الافريقية والشرقية القديمة وأسلوب الإنتاج السائد فيها.

برغم ذلك فإن دور الدولة لا ينتهي بالاستحواذ على العمل الفائض وتوزيعه، اذ كما أشرنا، فأن الدولة تعمل بصفتها المنظم لوسائل الإنتاج، عبر سيطرتها على استخدام العمل الجماعي فى عملية الإنتاج، وعليه فأن سيادة الدولة عبر انتزاعها للعمل الفائض تزداد متانة من خلال دورها الوظيفي التنظيمي فى عملية العمل، وهذا لا يعنى فقط استحالة إعادة إنتاج أسلوب الإنتاج السائد فى المجتمعات ذات النمط الآسيوي بدون إنتاج علاقة الإنتاج الخاصة الحاسمة التى يعبر عنها من خلال الشكل الأيديولوجي المقلوب، وإنما يعنى أيضاً أن الإنتاج يتم بمساعدة التدخل الذى تفرضه الدولة فى عملية تنظيم وسائل الإنتاج، بالتالي فأن إعادة إنتاج الإنتاج نفسه بهذا المعنى تعتمد على الدور التنظيمي الذى تضطلع به الدولة من خلال وظائفها المتعلقة بتوزيع الأرض والزراعة وما الى ذلك، ويقوى هذا الدور من فتشية الدولة والأيدولوجيا التى تمارس من خلالها السلطة السياسية.

عليه نخلص للقول بأن بنية التركيبات الشرقية القديمة التى ساد فيها هذا الأسلوب للإنتاج حتمت تركيباً تفصيلياً محدداً يكون الدور الحاسم فيه للممارسة الأيديولوجية لكي ما تتم عملية انتزاع العمل الفائض من المنتجين المباشرين، ولكيما يصبح بإمكان سلطة الدولة التدخل فى عملية الإنتاج. وعلاقات الإنتاج القائمة بين الدولة والمشتركات القروية هى التى ضمنت سيطرة الدولة على إنتاج العمل الفائض، والشرط المسبق لهذه العلاقة الاستغلالية هو شرط أيديولوجي حتى لو استدعت الضرورة ممارسة ذات العلاقة من خلال جهاز السلطة. بالتالي فإنه فى إطار الأسلوب الذى ساد فى التركيبات الاجتماعية ذات النمط الآسيوي يتم ضمان إعادة إنتاج علاقة الإنتاج الحاسمة عبر حتمية الممارسة الأيديولوجية وليس بأى حال من الأحوال عبر حتميَّة الممارسة الاقتصادية كما افترض ذلك العديد من الباحثين بحيث رأوا فى الأسلوب السائد فى المجتمعات الافريقية الشرقية القديمة شكلاً من أشكال علاقات الرق أو الإقطاع أو حتى الرأسمالية (ماكس فيبر). أن دينامية هذا الأسلوب الذى ساد فى الشرق القديم تنتج مباشرة عن حتمية سلطة الدولة الأيديولوجية واللاحقة. بعكس أساليب الإنتاج الأخرى، الإقطاعي والرأسمالي مثلاً، فأن دينامية أسلوب الإنتاج فى المجتمعات التى يسود فيها نمط الإنتاج الآسيوي لا تؤسس إمكانية فعلية لإنشاء قاعدة للانتقال الى أسلوب آخر.

عندما تحدث هيجل عن كون التاريخ الشرقي يبدو ظاهرياً وكأنه غير متبدل فان ذلك لا يدل على جهله بالتاريخ الإجتماعى للشرق. الأمر بعكس ذلك تماماً طالما أنه يتعلق بدينامية أسلوب الإنتاج الذى ساد فى المجتمعات الشرقية  التى نتج عنها بالتحديد شكل من عدم التطور أثر على مجمل بنية التركيبة الاجتماعية فى الشرق القديم، طالما أن حتمية الممارسة الأيديولوجية المتجسدة فى نشاطات الدولة قد وضعت حدوداً على عمليات تراكم رأس المال والملكيَّة الخاصة للأرض أو لرأس المال، وبالطبع حدوداً وقيوداً بالتالي على أى فصل للمنتج المباشر عن وسائل إنتاجه، انها وعبر سيطرتها الكاملة على تلك العمليات عاقت الدولة فى الشرق القديم إعادة إنتاج مثل تلك الإمكانيات التى يمكن أن يشكل أى منها قاعدة لتطور عملية الانتقال الى أسلوب إنتاجي جديد عبودياً كان أم إقطاعياً، وكنتيجة فأن الدولة بوصفها المالك لرأس المال وللأرض، من حيث موقعها فى عملية إعادة إنتاج الأسلوب السائد، سعت الى إعاقة تطور النزعات الانتقالية.

إن تطور الملكية الخاصة للأرض، والاستخدام الدائم للعمل المباشر فى أغراض أخرى غير الإنتاج القروي، كل ذلك كان يشكل خطراً يهدد كل النظام العام للإنتاج القروي والعلاقات الاقتصادية بين القرى، كما يهدد الوظائف الاقتصادية لسلطة الدولة. تلك العناصر فقط بدون ذكر الحواجز الأيديولوجية، شكلت دافعاً قوياً لمنع تحققها، بالتالي فانه فى إطار الأسلوب الذى ساد فى التركيبات الاجتماعية فى الشرق القديم ، طالما ظلت الممارسة الأيديولوجية محتفظة بهيمنتها وسيادتها، وطالما ظلت سارية عملية إعادة إنتاج العلاقة الإنتاجية الحاسمة بين الدولة والمشتركات القروية، فأن تطور النزعات الانتقالية ظل مكبوتاً، كما ظل محدوداً أيضاً تطور القوى المنتجة نفسها.

هذا التحجيم والتحديد للنزعات الانتقالية يتم الحفاظ عليه على امتداد تاريخ المجتمعات الشرقية القديمة بغض النظر عن التحولات "الدرامية"- على حد تعبير هيجل- التى ميزت التاريخ السياسي لتلك المجتمعات.  

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) لوى ألتوسير، قراءة فى رأس المال
(2) على سبيل المثال نجد أن ايمانويل تيرى يحاول من خلال تحليل ما أسماه أسلوب الإنتاج القرابى طرح رأى مفاده أنه وللنجاح فى التركيب النظرى لأسلوب أو أساليب الإنتاج الفاعلة فى تركيبة اجتماعية ما، لا بدَّ بالضرورة من إعطاء تعريف لأشكال العمل القائمة التى يتم من ثم تصنيفها انطلاقا من كونها تشكل تجمعاً لعدد من العناصر: العامل ووسائل الإنتاج وموضوع العمل وعلى هذا الأساس يرى تيرى إمكانية إعطاء تعريف لعلاقات الإنتاج والتوزيع السائدة ومدى انعكاس تلك العلاقات فى الأشكال السياسية والأيديولوجية.
(3)  شريف الدشونى، " وجهة نظر حول نمط الإنتاج الآسيوي"، الثقافة الجديدة، السنة السابعة، العدد الرابع، عدن، ابريل 1978،ص.12. 
(4) جان شينو، " نمط الإنتاج الآسيوي: بعض منظورات للبحث "،ضمن كتاب نمط الإنتاج الآسيوي ، ترجمة جورج طرابيشى، دار الطليعة، بيروت1972 ص.37.
(5) هيجل، محاضرات فى فلسفة التاريخ، الجزء الثانى، العالم الشرقى، ترجمة إمام عبدالفتاح إمام، دار التنوير للطباعة والنشر، بيروت 1984،ص. 118- 119.  
(6)  شايانوف، حول نظرية الاقتصاد الفلاحى (باللغة الروسية)، موسكو 1966ص.54.  
(7) المرجع نفسه، ص.60.
(8) المرجع نفسه، الصفحة ذاتها.
(9) بالطبع فإن فرضيَّة ماكس فيبر الخاصة "برأسمالية الدولة" فى دول الشرق القديم لا يمكن فهمها إلا من خلال إدراك مجمل إطاره المنهجى، ذلك أنه يرى بأن المفاهيم العامة فى البحث التاريخى لا يمكن الاستغناء عنها طالما أنها تشكل وسيلة لفهم الوقائع التاريخية وتقييمها، إلا أن مثل تلك المفاهيم لا تؤلف فى رأيه سوى أنماط مثالية، نوعاً من البعد لليوتوبيا المنطقية التى تفقد أى محتوى تاريخى محسوس. لمثل تلك "الأنماط المثالية" يرجع ماكس فيبر مقولات مثل: الدولة والاقطاع والرأسمالية والديمقراطيَّة الخ. وحاول ماكس فيبر بمساعدة نظرية الأنماط المثالية استبعاد فكرة قانونية التطور التاريخى من منهجية العلوم الاجتماعية. أنظر كتابه:
Max Weber, The Agrerian Sociology of Ancient Civilizations,London:NLB,1976. 
(10) للمزيد من تفاصيل هذا التحديد الأيديولوجي يمكن الرجوع للبحث القيم الذى كتبه إيون بانو ، " التركيبة الاجتماعية الآسيوية فى منظور الفلسفة الشرقية القديمة "، أنظر: كتاب- ست دراسات فى النمط الآسيوي ، تحرير وترجمة أحمد صادق سعد، دار الطليعة، بيروت 1979، ص. 111- 140.
(11) كان التاج فى ذلك الوقت يتألف من قبعة محدبة القمة ومن عصابة تلتف حولها عند الجبهة.
(12) الاحتفال فى مصر القديمة بالعيد المسمى " حب سد " والذى يقام طبقاً لطقوس عقائدية محددة، كان الهدف منه استعادة القوة والشباب للفرعون الذى بلغ به الكبر مبلغاً، وفى اعتقادنا أن هذا الاحتفال كان بمثابة البديل الطبيعي الذى حلَّ مكان العادة القديمة  لاغتيال الملك الطقوسى فى الفترات المبكرة. ومما يسترعى الانتباه أن احتفال " حب سد " أخذ فى المراحل المتأخرة يتكرر مرة كل ثلاث سنوات مما يشير الى أن سلطة الفرعون وجبروته أصبحت فى حاجة ماسة للتجديد والإحياء كنتيجة منطقية لتدهور السلطة الملكيَّة الناجم من الضعف الذى أصاب جسم الإمبراطورية المصرية. أما فى كوش ( السودان ) فقد مورست عادة اغتيال الملك الطقوسى جسدياً حتى تم الغاؤها بواسطة الملك أركامانى فى أواخر القرن الثالث قبل الميلاد، لكنها عادت لتطل برأسها مرة أخرى فى عصر دولة الفونج الإسلامية فى السودان (1504- 1821 م.)، ومارسها شعب الشلك فى جنوب السودان حتى أواخر الثلاثينات من القرن العشرين المنصرم.[ للمزيد من المعلومات حول الموضع أنظر: اسامة عبدالرحمن النور،"أركامانى وطقوس إغتيال الملك فى كوش"، الخرطوم، العدد الرابع، 1974."]
(13) طه باقر، مقدمة فى تاريخ الحضارات القديمة ،(جزأين)، بغداد 1973.






أركامانى مجلة الآثار والأنثروبولوجيا الســــودانية

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق