الأربعاء، 15 مارس 2017

النظام السياسي للنوير في جنوب السودان


أركامانى مجلة الآثار والأنثروبولوجيا الســـودانية
مجلة الأنثروبولوجيا العدد الثاني/ فبراير 2002

THE POLITICAL SYSTEM OF THE NUER
Ivans Pritchard
النظام السياسي للنوير في جنوب السودان
إيفانز برتشارد
ترجمة أسامة عبدالرحمن النور




الآن وقد أثبتت سنوات الإنقاذ عقم الممارسة "الثورية السياسوإسلاموية" التى وضعت خطة عمل لهندسة اجتماعية على نطاق واسع أفضت الى تأسيس حكم إستبدادى ثيوقراطى هو الثاني من نوعه فى السودان. إن المحاولة الإنقاذية لإعادة تشكيل المجتمع السودانى مثلت مشروعاً ضخماً سبب إزعاجاً شديداً للكثيرين من المفكرين السياسيين السودانيين مما دفع بأهل الإنقاذ السياسوإسلامويين الطوباويين الى أن يصموا آذانهم على مدى سنوات عن العديد من الشكاوى، وأن يقمعوا بشدة كل رأى معارض غير معقول كان أم معقول مستمسكين بقول فلاديمير إيلتش لينين "لا يمكنك أن تصنع عجة بدون أن تكسر بيضاً".
بعد أن بذلوا ما فى جعلتهم من طاقات لتكسير كل البيض تكشفت لهم حقيقة أنهم مهما كسروا من بيض فإن الدجاج يبيض بخصوبة عالية. أدركوا فشل مشروعهم الطوباوى الأحادي فولوا يتحدثون عن "التنوع" و"التعدد" الاثنى والثقافي والديني، وسمحوا لأجهزة إعلامهم الابتعاد عن "ساحات الفداء" توجهاً إعلامياً أوحدا ببث برامج ذات مغزى ونعنى هى الأكثر إخصاباً لمشروع الأمة السودانية. لكنهم فى الحين نفسه يسعون الى إفراغ شعارات التنوع والتعدد بتحويلها الى شعارات محكومة بما يسمونه "ثوابت الإنقاذ"، ومن ثم يجوز القول بأن تبنيهم لمبدأ "التنوع والتعدد" لا يبدو أكثر من مجرد تكتيك سياسي قصير الأجل.
التنوع والتعدد الاثنى والثقافي والديني جسده اليسار السوداني منذ بروزه على الساحة السودانية فى نهاية الأربعينيات وطوره ليتبلور فى مقولة "الوحدة فى التنوع". وقد رفض التيار الإسلاموى منذ ظهوره على مسرح الحياة السياسية السودانية الاعتراف بحقيقة التنوع والتعدد بدعوته الى فرض هيمنة "ثقافة مركزية" تنفى الآخر. لكن شاءت الإنقاذ أم أبت، فإن مسار التاريخ لا بدَّ وأن يفضى الى سيادة قيم العقلانية وانتصار "الروح الإنسانية" التى تقيم الفرد لا بدينه أو لونه ولا بانتمائه العرقي أو هويته الثقافية وإنما بإسهامه فى جعل السودان مجتمعاً مكتفياً، مانحاً لكافة مواطنيه السعرات الحرارية الضرورية، كافلاً استمرارية التثاقف بين كافة أعراقه أمة واحد إثراءً للتراث الإنساني.
بعد أن أفضى المشروع السياسوإسلاموى الطوباوى الى المآسي التى تعيشها الأمة السودانية جراء حرب أهلية تمثل بلورة لكامل المشروع، ومن فقر مدقع يحيق بالمواطن، ومن فقدان كامل للسيادة الوطنية على جزء من السودان باتفاقية رسمية مع يوغندا، ومن إعتراف غير معلن بانسلاخ حلايب عن جسم السودان، ومن إنعدام للاستقرار الأمني فى الغرب الأقصى، ومن...ومن...أفلا يحق لدعاة السودانوية المؤمنين "بالوحدة فى التنوع" التغني بالعودة الى الخرطوم "المركز" مع محجوب شريف:
غنى يا خرطوم وغنى
شدي أوتار المغنى
ضوى من جبهة شهيدك
أمسياتك واطمئني
ونحن يا ست الحبايب
من ثمارك
فى دروب الليل نهارك
وقبل ما يطول انتظارك
نحن جينا
وديل أنحنا القالوا فتنا
وقالوا للناس انتهينا
جينا زى ما كنا حضنك يحتوينا
ظل دعاة السودانوية فى السودان عمومه دوماً ينطلقون من مفهوم "التثاقف" رافضين جملة وتفصيلاً أطروحات التيار السياسوإسلاموى وغيره من التيارات التفكيكية فى الشمال الداعين الى فرض هيمنة عنصر أوحد من مجمل عناصر المركب الثقافي والديني المكون للأمة السودانية. وفى الآن نفسه ظل دعاة السودانوية رافضين للتيار الإنفصالى فى الجنوب. وبما أن مفهوم "التثاقف" يستبعد جملة وتفصيلا مبدأ غالبية سائدة بمواجهة أقليات طالما أن إقرار مثل هذا المبدأ يفضى بالضرورة الى تفكيك السودان وعرقلة بناء مشروع الأمة السودانية الواحدة، فإنه لا بدَّ من بلورة الظواهر التى نشأت وتنشأ عن الاحتكاك المباشر والمتواصل بين عناصر الكل المركب للثقافات السودانية والجماعات الحاملة لتلك الثقافات. من ثم يجئ الجهد فى ترجمة هذا البحث الذى، كتبه إيفانز برتشارد فى عام ... عن النسق السياسي، للنوير ليصب فى خانة الجهد المبذول من قبل العديد من الكتاب والفنانين والمفكرين  والسياسيين الساعين الى بلورة وتأطير مفهوم "التثاقف" أداة للعمل من أجل هزيمة المشروع السياسوإسلاموى الطوباوى ومن أجل طرح مشروع بديل يدعو لإنفتاح كافة الثقافات السودانية دونما انغلاق وبلا انسداد فكرى فى دائرة ما يسمى "بالثقافة المركزية". علينا أن نستوعب بعضنا البعض وأن نغوص جميعنا كل منا فى أعماق ذهنية الآخر عن طريق معرفة مكونات الآخر الثقافية وإدراكها بدلاً عن التقوقع فى زنزانة النظرة الشوفينية المنغلقة التى تتوهم فى أن تجعل عنصراً بعينه من عناصر المركب الثقافي السوداني المتنوع مركزاً للكون الذى يتوجب على الآخر، الهامشي، أن يعرفه ويدركه!!

نص إيفانز برتشارد

أكتب بإختصار عن النوير لأننى سبق أن سجلت جزءاً معتبراً من ملاحظاتي عن دستورهم السياسي وكل ذلك على وشك أن يصدر كتاباً. الملاحظات تلك، على كلٍ، تم تضمينها هذا المجلد (الأنظمة السياسية الأفريقية) بسبب أنَّ دستور النوير يقدم نموذجاً لشرق أفريقيا ولأنه يطلعنا على نمط سياسي خاص للغاية.

التوزيع
للكشف عن حالة فقدان الحكومة لديهم يجب علينا بداية أن نلقى نظرة موجزة لإيكولوجية الناس: سبل كسب معاشهم، توزيعهم، وعلاقة هاتين بمحيطهم. يمارس النوير تربية الأبقار والزراعة. ويقومون أيضاً بصيد الأسماك، واصطياد الحيوانات، ويجمعون الفواكه والجذور البرية. إلا أن الأبقار، خلافاً لموارد طعامهم الأخرى، تقتنى أكثر من مجرد أهمية غذائية، إنها بلا شك ذات قيمة أعلى فى نظرهم من أي شئ آخر. من ثم، رغم أنهم يمتلكون اقتصادا مختلطاً، فإن النوير عاطفياً هم رعاة فى الأساس.

أرض النوير أكثر ملاءمة لتربية المواشى منها للزراعة: إنها مسطحة، طينية، منطقة سافانا، جافة وجرداء أثناء موسم الجفاف ومغمورة ومغطاة بالحشائش الطويلة أثناء موسم الأمطار. تسقط الأمطار الغزيرة وتفيض الأنهار على ضفافها بدءاً من يونيو حتى ديسمبر. ومن ديسمبر حتى يونيو تشح الأمطار وينخفض منسوب الأنهار. تتألف السنة بالتالي من فصلين لهما امتداد زمني متساوٍ. هذه الثنائية الفصلية، مع الاهتمامات الرعوية، تؤثر بعيداً على العلاقات السياسية.

خلال فصل الأمطار يعيش النوير فى قرى مرتفعة على ظهر هضاب صغيرة مدورة و تلال أو منقطة على إمتدادات أرض غير شديدة الإنحدار، وينشغلون بزراعة الدخن والذرة. الأرض التى تعترض بين قرية وأخرى، تكون مغمورة لستة أشهر، ومن ثم فهى ليست صالحة للإقامة ولا للزراعة ولا للرعى. أية مسافة من خمسة الى عشرين ميلاً يمكن أن تفصل بين القرى المتجاورة، بينما تفصل المسافات الأكبر أقساماً من القبيلة الواحدة وتفصل قبيلة عن قبيلة.

فى نهاية موسم الأمطار، يحرق الناس الحشائش لتوفير مرعى جديد ويغادرون قراهم للإقامة فى معسكرات صغيرة. عندما يصبح الجفاف شديداً، تتركز مساكن تلك المعسكرات الوسطية حول مصادر المياه الدائمة. ورغم أن تلك التحركات تتم أساساً من أجل الأبقار، فإنها تمكن النوير أيضاً من صيد الأسماك، وهو ما يكاد يستحيل من مواقع القرى، وأن، ولو بدرجة أقل، يمارسوا اصطياد الحيوانات وجمع الفواكه والجذور البرية. وعندما تهطل الأمطار مجدداً، يعودون الى قراهم، إذ تتوفر حماية للأبقار وتسمح الأرض المرتفعة بممارسة الزراعة.

توزيع النوير تحتمه الظروف الطبيعية ونمط الحياة الذى وضعنا خطوطه العامة. خلال موسم الأمطار، تنفصل القرى، لكنها لا تكون منعزلة بحال من الأحوال، من جيرتها بامتدادات مغمورة من الحشائش، وبالتالي تؤلف الجماعات المحلية وحدات مختلفة للغاية. خلال موسم الجفاف، يتمركز الناس من قرى مختلفة فى المنطقة نفسها حول مصادر المياه الدائمة ويقتسمون معسكرات مشتركة. من جانب ثانٍ، قد تذهب عائلات قرية الى معسكر وعائلات الى معسكر آخر، رغم أن الغالبية تؤلف جماعة محلية على امتداد السنة.

نادراً ما يتوفر للنوير فائض طعام فى بداية موسم الأمطار وعادة ما يكون غير كافٍ لسد احتياجاتهم. بالطبع، يمكن القول بأنهم عادة على حافة العوز وأنهم يواجهون المجاعة الحادة من حين لآخر بعد مرور بضع سنوات قليلة. فى تلك الظروف، يكون مفهوماً وجود قدر عالٍ من المشاركة فى الطعام فى القرية نفسها، بخاصة وسط أعضاء المساكن والقرى المتجاورة. رغم أنه فى أي وقت قد يكون لبعض الأعضاء أبقار ومحاصيل أكثر من آخرين، وتلك ممتلكاتهم الخاصة، فإن الناس يأكلون فى مساكن بعضهم البعض فى الاحتفالات وفى الوجبات اليومية، ويتم اقتسام الطعام بصورة أو بأخرى، الى الدرجة التى يمكن للمرء فيها الحديث عن وجود مخزون مشترك. يكون الطعام متوفراً بكثرة من نهاية سبتمبر حتى منتصف ديسمبر فى السنة العادية، وأنه خلال تلك الأشهر يتم إقامة الاحتفالات والرقصات وما الى ذلك.

يمتلك النوير تقنية غير معقدة. تفتقد بلادهم الحديد والحجر كما أن أعداد الأشجار وتنوعاتها محدودة، وهى غير ملائمة لأغراض أخرى غير المباني. هذا الشح فى المواد الخام، جنباً الى جنب مع الإمداد المحدود بالطعام، يقوى الصلات الاجتماعية، ويقرب أهل القرية أو المعسكر أكثر، بمعنى أخلاقي، طالما أنهم كنتيجة شديدو الاعتماد المتبادل و يكون نشاط الرعي واصطياد الحيوانات وصيد الأسماك، وبدرجة أقل النشاطات الزراعية، بالضرورة عملاً جماعياً. يتجلى ذلك بوضوح تام فى فصل الجفاف، عندما ترعى أبقار العديد من العائلات وهى مقيدة فى زريبة مشتركة وتقاد قطيعاً واحداً الى أرض المرعى.

بالتالي، فإنه بمعنى ضيق تمثل العائلة المنزلية الوحدة الاقتصادية، وتشكل الجماعات المحلية الأكبر، مباشرة أو غير مباشرة، مجموعات تعاونية مندمجة للحفاظ على الوجود، وتشاركيات تمتلك مصادر طبيعية وتشترك فى استغلالها. تكون الوظائف التعاونية أكثر مباشرة وبروزاً فى المجموعات المحلية الصغيرة أكثر منها فى المجموعات الأكبر، لكن الوظيفة الجماعية للحصول على الاحتياجات الضرورية للحياة من المصادر ذاتها تكون الى درجة ما مشتركة لكافة الجماعات المحلية من العائلة المنزلية حتى القبيلة.

تتألف تلك الجماعات المحلية من العائلة أُحادية الزواج المرتبطة بكوخ مفرد، تحتل العائلة مسكناً واحداً، القرية الصغيرة، والقرية، والمعسكر، والمنطقة، والأقسام القبلية ذات الأحجام المختلفة، والقبيلة، والناس، والمجتمع الدولي تلك تمثل حدود الأفق الاجتماعي للنوير. تعد العائلة، والعائلة المنزلية، والقرية الصغيرة جماعات منزلية أكثر منها سياسية، ولا نناقشها بمزيد من التفصيل.

يتحتم توزيع تلك الجماعات المحلية الى حد بعيد بالظروف الطبيعية، بخاصة بوجود الأرض التى تبقى أكثر ارتفاعا من منسوب الفيضان خلال موسم الأمطار، ومن المياه الدائمة التى تعاند الجفاف. فى كل قرية، يتحدد عدد السكان وترتيب المساكن بطبيعة الموقع. عندما ترتفع المساكن فوق تل منعزل تكون متزاحمة بعضها بالآخر؛ وعندما تصطف على امتداد قمة جبل أو تل، تكون أكثر تباعداً بعضها عن الاخر؛ وعندما تنتشر على امتداد متسع من الأرض المرتفعة، يمكن أن تفصل بين القرية الصغيرة والأخرى عدة مئات من الياردات. فى العديد من القرى الكبيرة، تتجمع المساكن فى مجموعات، أو قرى صغيرة، يكون سكانها فى العادة أقارب أقربين وزوجاتهم. ليس ممكناً سوى إعطاء إشارة تقريبية لعدد سكان قرية، لكن يمكن القول أنه يتراوح من 50 الى عدة مئات نسمة.

كما بينا، تنفصل القرى عن بعضها بعدة أميال من السافانا. مجموعة قرى واقعة فى محيط يسمح بنشوء اتصالات مباشرة نطلق عليها "منطقة أو مركز district". ليست هذه مجموعة سياسية، ذلك أنه يمكن تعريفها فقط فى علاقتها بكل قرية، طالما أن نفس القرى يمكن تضمينها فى أكثر من منطقة واحدة؛ ولا نعد جماعة محلية مجموعة سياسية إلا إذا تحدث الناس عن أنفسهم بوصفهم جماعة بمواجهة جماعات أخرى من النوع نفسه وعدوا كذلك من قبل الآخرين. برغم ذلك تنحو المنطقة للتطابق مع فرع من الدرجة الثالثة لقبيلة وشبكة الارتباطات الاجتماعية هى التى تعطى الفرع الكثير من تماسكه. الناس من المنطقة نفسها عادة ما يقتسمون معسكرات مشتركة فى موسم الجفاف ويحضرون احتفالات الزواج والمناسبات الأخرى بينهم. يتزاوجون فيما بينهم ومن ثم ينشئون فيما بينهم علاقات مصاهرة ونسب والتى تتمحور حول نواة أبوية النسب، كما سنرى لاحقاً.

تتجمع القرى، الوحدات السياسية لأرض النوير، فى أقسام أو فروع قبلية. هناك بعض القبائل الصغيرة جداً الى الغرب من النيل والتى تؤلف قرى متجاورة فقط. فى القبائل الأكبر الى الغرب من النيل وفى  قبائل شرق النيل كلها، نجد أن الإقليم القبلي ينقسم الى عدد من المناطق التىتفصل بينها أراضى غير مأهولة، والتى تعترض بين أقرب مواقع إقامة لقبائل متماسة أيضاً.

بما أن النوير بأجمعهم يغادرون قراهم الى معسكر بالقرب من الماء، فإن لهم توزيع ثانٍ فى موسم الجفاف. عندما يعسكرون على ضفاف نهر، فإن تلك المعسكرات فى حالات يلى بعضها الآخر بعد كل عدة أميال، لكنهم عندما يعسكرون حول أحواض داخلية، فإنَّ مسافة عشرين الى ثلاثين ميلاً تفصل بين معسكر والذى يليه. المبدأ الإقليمي لبنية النوير السياسية يتم تعديله بفعل الهجرات الموسمية. الناس الذين يؤلفون جماعات قروية منفصلة فى فصل الأمطار يمكن أن يتحدوا فى معسكر مشترك خلال موسم الجفاف. بالمثل، الناس الذين هم من القرية نفسها يمكن أن ينضموا الى معسكرات مختلفة. أيضاً، عادة ما يكون ضرورة، فى القبائل الأكبر، لأعضاء قرية اجتياز أراضى واسعة فى البلاد، مأهولة بجماعات قروية أخرى، وصولاً الى الماء، ويمكن أن يقع معسكرهم قريباً من قرى أخرى. لتجنب الفقدان الكلى لقطعانهم بفعل طاعون الماشية أو بسبب كارثة أخرى، فإن النوير يقومون بتوزيع القطعان فى معسكرات متعددة.

فى غربي بلاد النوير، حيث القبائل عموماً أصغر من قبائل شرق النيل، هناك دوماً وفرة فى المياه والمرعى، ومن الممكن، من ثم، للجماعات القروية فى موسم الأمطار أن تحافظ على عزلة نسبية فى موسم الجفاف. لكن حيث، كما هو الحال فى قبيلة لوو- على سبيل المثال، تفرض ندرة المياه والمرعى المزيد من التحرك الفاعل وتركيز أكبر، فإن الناس الموزعين على مساحات متسعة يمكن أن يؤسسوا اتصالا اجتماعيا أكثر بين بعضهم البعض مما هو عليه الوضع فى أرض النوير الغربية. تنكسر عزلة الجماعات المحلية واستقلالها بفعل الضرورة الاقتصادية مما يؤدى بالتالي الى ازدياد حجم المجموعة السياسية. هذه الحقيقة لا بدَّ من النظر إليها فى علاقتها بحقيقة أخرى وهى أنه الى الشرق من النيل تسمح امتدادات واسعة من الأرض المستوية تمركز محلى أكبر فى الأمطار منه فى الضفة الغربية للنيل. فضلاً عن التمركز الفصلي يوفر تفسيراً، رغم عدم اكتماله تماماً، لموضع الحدود القبلية، طالما أن المحتم لها ليس هو توزيع القرى فحسب، بل أيضاً الاتجاه الذى ينقلب إليه الناس فى ترحالهم الى مراعى موسم الجفاف. بالتالي فإن قبائل وادى الزراف يتراجعون الى نهر الزراف ومن ثم لا يقتسمون المعسكرات مع قبيلة لوو، ويقيم ذلك الجزء من قبيلة لوو الذى يرتحل الى الشرق والشمال الشرقي معسكراتهم على نهر نياندينج وفى أعالي البيبور ولا يقتسمون مياههم ومرعاهم مع قبائل جيكانى، الذين يرتحلون الى أعالي نهر السوباط وأسفل البيبور. أكثر من ذلك، فإن بعض قبائل النوير الكبرى قادرة على المحافظة على درجة من وحدة القبيلة بدون أجهزة حكومية وهو ما يمكن أن يرجع الى الهجرة الموسمية، طالما أنه، كما أسلفنا القول، يفرض على الأقسام المحلية المختلفة بفعل قسوة المنطقة الى الدخول فى صلة متبادلة والى تطوير بعض سلوكيات الصبر والى الاعتراف بالمصالح المشتركة.

بالمثل، فرع قبلي هو تفلق متميز، ليس فقط لكون قراه تحتل جزءاً جيد التحديد من منطقة القبيلة، بل كذلك من حيث أنه يمتلك مراعيه الفريدة فى موسم الجفاف. الناس من فرع واحد يتحركون فى اتجاه واحد والناس من فرع مجاور يتحركون فى اتجاه مخالف. تمركزات فصل الجفاف أبداً لا تكون على أسس قبلية، لكنها لفروع من القبيلة، ولا تكون كثافة السكان عالية فى أي منطقة أو أية مرحلة.

مجمل سكان النوير حوالي 300.000 نسمة. لا أدرى المساحة الكلية بالأميال لبلادهم، لكن الى الشرق من النيل، حيث يوجد بالتقريب 180.000 من النوير، يقال أنهم يقطنون 26.000 ميل مربع، مع كثافة سكانية متدنية تبلغ سبع فى كل ميل مربع. وليست الكثافة السكانية بأحسن حالاً الى الغرب من النيل. لا توجد فى أي مكان من بلاد النوير درجة عالية من التمركز المحلى.

رغم أن تحرك موسم الجفاف ينتج المزيد من العلاقات المتبادلة بين أفراد الفروع القبلية المختلفة أكثر مما يلاحظ فى موسم الأمطار فإن التوزيع قد يقودنا لأن نتوقع أن تكون تلك العلاقات فردية فى الأساس أو، عندما تتعلق بمجموعات، فإنها تكون فى إطار جماعات محلية صغيرة، وليس الفروع القبلية الأكبر، تصل الى حالة ترابط. يمكن أن يكون هذا، احتمالا، أحد الأسباب المؤدية الى انعدام التعقيد البنيوى والى التنوع الكبير فى أشكال العلاقات الاجتماعية وسط النوير. خارج المجموعات القرابية الصغيرة وجماعات القرى والمعسكرات، لا وجود لمركبات للتعاون الإقتصادى وليس هناك ارتباطات طقوسية منظمة. باستثناء المغامرات العسكرية الموسمية، فإن الحياة المشتركية النشطة محصورة فى تفلقات قبلية صغيرة.

النظام القبلي
ماهى قبيلة النوير؟ أكثر سمة بادية بوضوح هى وحدة منطقتها وانغلاقها، ويلاحظ ذلك بصورة أكثر وضوحاً فى فترة ما قبل الاستعمار مما هو عليه الأمر اليوم. يتفاوت عدد سكان القبيلة من بضع مئات وسط بعض القبائل الصغيرة الى الغرب من النيل- إذا ما عدت تلك بالفعل قبائل، إذ أن القليل جداً من البحث قد أجرى فى تلك المنطقة- ليبلغ عدة آلاف. يبلغ سكان معظم القبائل ما يزيد عن 5.000 نسمة والأعداد الأكبر 30.000 و 45.000 نسمة. كل قبيلة مكتفية ذاتياً من الناحيَّة الاقتصادية، لها مراعيها الخاصة، وإمدادات مياهها، وأحواض صيدها، والتى يجوز لأعضائها فقط الحق فى استغلالها. وللقبيلة اسمها الذى يرمز الى تفردها. لدى أفراد القبيلة إحساس بالوطنية: يفتخرون بانتمائهم لعضوية القبيلة ويعدونها أعلى من القبائل الأخرى. وسط كل قبيلة توجد عشيرة سائدة توفر إطاراً للقرابة يقوم على أساسه المركب السياسي. وتنظم كل قبيلة أيضاً بصورة مستقلة نظام التراتب العمري الخاص بها.

لا تختلف القبيلة عن أقسامها فى أى من تلك الصفات المذكورة. التعريف غير المعقد يقول بأن القبيلة هى الجماعة الأكبر التى لا بدَّ وأن تحل الخلافات بين أعضائها  بالتحكيم وأن عليها أن تتحد بمواجهة الجماعات الأخرى من النوع نفسه وضد الأجانب. فى الحالتين الأخيرتين لا وجود لمجموعة سياسية أكبر من القبيلة وكل المجموعات السياسية الأصغر هى أقسام منها.

هناك قانون داخل القبيلة؛ هناك آلية لفض النزاعات والتزام أخلاقي لاحتوائها عاجلاً أم آجلاً. إذا قتل الشخص زميلاً له فى القبيلة، يمكن منع أو حجب الضغينة بدفع أبقار. بين القبيلة والقبيلة ليست هناك وسائل للجمع بين الأطراف فى النزاع ولا يقدم التعويض كما انه غير مطلوب. بالتالي إذا قتل فرد من قبيلة فرداً من قبيلة أخرى، فإن العقوبة يمكن أن تتخذ فقط شكل حرب قبلية. يجب ألا نفترض أنَّ العداءات داخل القبيلة يمكن حلها بيسر. هناك سيطرة معتبرة على الثارات داخل القرية، لكن كلما كبر حجم الجماعة المحلية كلما أصبحت التسوية أكثر صعوبة. عندما يدخل قسمان كبيران من القبيلة فى عداوة، فإن فرص التحكيم الفوري والتسوية تكون نائية. تختلف قوة القانون باختلاف المسافة فى البنية القبلية التى تفصل الأشخاص المعنيين. مع ذلك، طالما أن الإحساس بالجماعة يظل باقياً والعرف القانوني معترف به رسمياً داخل القبيلة، غض النظر عن التقلبات والتناقضات التى قد تظهر فى العلاقات الفعلية بين أفراد القبيلة، فإنهم يظلون يعدون أنفسهم مجموعةً متحدة. من ثم إما أن يتم الإحساس بالعداوات وتسويتها، بالتالي الاحتفاظ بوحدة القبيلة، أو أنَّ العداوات تظل غير محسومة بحيث يفقد الناس الأمل والتطلع الى التسوية وأخيراً يتوقفون عن الإحساس بأن عليهم تسويتها، بحيث تنحى القبيلة الى التفلق لتظهر قبيلتان جديدتان.

كذلك علينا ألا نفترض أن الحدود السياسية للقبيلة هى حدود العلاقة الاجتماعية. يتحرك الناس بحريَّة فى كل أرض النوير ولا يتحرش بهم إذ لم يرتكبوا جريمة دموية. يتزوجون، وبدرجة أقل، يتاجرون عبر الحدود القبلية، ويقومون بزيارة أقاربهم المقيمين خارج قبيلتهم نفسها. الكثير من العلاقات الاجتماعية، التى ليست هى بالتحديد سياسية، تربط أعضاء قبائل مختلفة. على المرء أن يذكر فقط أن  العشائر نفسها توجد فى قبائل مختلفة وأنه فى كل مكان يتم تنسيق الفئات العمرية. كل نويرى له حق ترك قبيلته والاستقرار فى قبيلة جديدة، والتى يصبح من ثم عضواً فيها. فى أزمان السلم يحق حتى للغرباء من الدينكا زيارة أرض النوير دون أن يتعرضوا لأذى. إضافة علينا أن ندرك أن مجمل شعب النوير يمثل جماعة واحدة، غير منقسمة إقليمياً، فى إطار ثقافة مشتركة وشعور بالخصوصية والتميز. لغتهم المشتركة وقيمهم تسمح بالاتصال فيما بينهم. بالطبع، قد نتحدث عن النوير أمة، لكن فقط فى محتوى ثقافي، ذلك أنه لا يوجد تنظيم سياسي مشترك ولا إدارة مركزية.

الى جانب كونهم المجموعة الأكبر التى يعترف فيها بالالتزامات القانونية، فإن القبيلة هى أيضاً المجموعة الأكبر التى عادة ما تتحد فى حالة شن هجوم أو فى حالة الدفاع. يقوم شبان القبيلة، حتى وقت قريب، بحملات غزو جماعية ضد الدينكا ويشنون الحرب ضد قبائل النوير الأخرى. كانت الغزوات ضد الدينكا متكررة الحدوث؛ فى حين كانت الحروب بين قبائل النوير فيما بينها أقل حدوثاً. نظرياً، إذا كان قسمان من قبيلتين مختلفتين فى حالة عداء، فيمكن أن يعتمد كل قسم على دعم أقسام أخرى من القبيلة نفسها، لكن عملياً فإن الأقسام الأخرى لا تشترك. تتلاحم القبائل المتجاورة فى حالات ضد الأجانب، بخاصة ضد الدينكا، رغم عدم وجود التزام أخلاقي لفعل ذلك، ويكون الإتحاد قصير الأجل، وينفذ الحلفاء مهامهم بصورة مستقلة، حتى فى حالة التعاون.

فى الوقت الراهن، يتاخم النوير من الغرب والجنوب الدينكا، الذين يبدو أن لهم النوع نفسه من النظام السياسي الخاص بهم، أي أنهم يؤلفون مجموعات قبائل بدون حكومة مركزيَّة. منذ أقدم الأزمان كان النوير فى حالة احتراب مع الدينكا وكانوا دوماً هم المهاجمون. نعرف أنه فى النصف الأول من القرن الماضى (القرن التاسع عشر- أسامة) تدفقت موجات من النوير من موطنها الى الضفة الغربية للنيل مجتاحة أرض الدينكا الى الشرق من ذلك النهر وأنهم احتلوا وامتصوا السكان فى معظم ما هو الآن أرض النوير الشرقية (ميز النوير بين ناث سيينج " الوطن الأم"، أو أرض النوير الغربية، وناث دوار، "المهجر"، أو أرض النوير الشرقية). الاحتراب بين الشعبين استمر حتى يومنا هذا لكن لا يبدو أن هناك تغييراً كبيراً فى المنطقة خلال الخمسين سنة الماضية، هذا إذا ما وثقنا فى خرائط الرحالة المبكرين. إذا كان لنا أن نعرف لماذا تؤلف القبائل الشرقية مجموعات أكبر عدداً ومساحة مقارنة بالقبائل الغربية، فإن الهجرات بإتجاه الشرق تمثل حقيقة لا بدَّ من أخذها فى الحسبان مع تلك الهجرات الموثقة فى أوقات أسبق، ذلك أنه يجوز افتراض أن الصراع من أجل الاحتلال والاستقرار، وامتصاص الدينكا بصورة غير مشهودة، كان لها تأثيرها على الحشود المهاجرة.

الى الشمال، فإن النوير يحتكون بدرجات متفاوتة بالعرب، وبقبائل جبال النوبا، وبمملكة الشلك القوية، وببعض الجماعات الصغيرة فى دار فونج (البورون والكوما)؛  فى حين يتاخم النوير من الشرق والجنوب الشرقي الجالا فى إثيوبيا، والأنواك، والبيير. متى ما دخل النوير فى علاقات مع تلك الشعوب فقد كانت عدائية الطابع.

تطفّل عرب شمال السودان من قانصى الرقيق هنا وهناك فى الأجزاء الممكن الوصول إليها من أرض النوير فى النصف الثاني للقرن التاسع عشر، لكنهم لم ينجحوا فى أى مكان فى أن تكون لهم اليد العليا أو، بالطبع، أن يتركوا تأثيراً ملحوظاً على النوير، الذين عارضوهم بشدة وقاوموا لاحقاً الحكومة المصرية، التى لم تقم بعمليات جادة ضدهم. كذلك بالمثل تعامل النوير مع الحكم البريطانى بعدم إحترام حتى تم كسر معارضتهم وإخضاعهم تحت إدارة صارمة بفعل عمليات عسكرية طويلة بين 1928 و 1930. بإستثناء هذه الحلقة فى تاريخهم، يمكن القول بأن النوير قد وصلوا فى علاقاتهم الخارجية حالة توازن وحالة عداء متبادل يتم التعبير عنها من وقت لآخر فى الإحتراب.

تنقسم القبيلة الى شرائح إقليمية تعد نفسها جماعات منفصلة. نشير الى تقسيمات القبيلة الأولية والثانوية والثالثة بمصطلح شرائح. الأقسام الأولية هى شرائح من قبيلة، والأقسام الثانوية هى شرائح من قسم أولى، والثالثة هى شرائح من قسم ثانوي. تنقسم الثالثة الى قرى وتنقسم القرى الى مجموعات منزليَّة. عضو قسم ثالث ²Z من قبيلة B يعد نفسه عضواً فى جماعة Z² بالنسبة لـ Z¹، لكنه يعد نفسه عضواً فى Y² وليس Z² بالنسبة لـ Y¹. بالمثل، يعد نفسه عضواً فى Y، وليس Y²، بالنسبة لـ X. يعد نفسه عضواً فى قبيلة B، وليس عضواً فى قسمها الأولى Y، بالنسبة لقبيلة A. بالتالي، فى مخطط بنيوى، هناك دائماً تناقض فى تعريف مجموعة سياسيَّة، ذلك أن الفرد هو عضو فيها بفضل عدم عضويته فى مجموعات أخرى من النوع نفسه الذى يقف خارجه، وهو بالمثل ليس عضواً فى الجماعة نفسها بفضل عضويته فى شريحة منها تقف فى تضاد مع شرائحها الأخرى. بالتالى يعد الفرد عضواً فى مجموعة سياسية فى حالة واحدة وليس عضواً فيها فى حالة مختلفة، على سبيل المثال فهو عضو فى قبيلة بالنسبة لقبائل أخرى وهو ليس عضواً فيها من حيث أن شريحة قبيلته تقف فى مواجهة شرائح أخرى. لدى دراسة الدستور السياسي للنوير، يكون من الضروري من ثم النظر إليه سوياً مع دساتير أعدائهم كنظام سياسي واحد، ذلك أن الخاصة البنيوية الجلية للمجموعات السياسية للنوير تكمن فى نسبيتها. الشريحة القبلية هى مجموعة سياسية بالنسبة لشرائح أخرى من النوع نفسه، وتؤلف كلها بصورة مشتركة قبيلة فقط بالنسبة لقبائل النوير الأخرى وبالنسبة للقبائل المجاورة الأجنبية التى تؤلف جزءاً من نظامهم السياسي، وبدون تلك العلاقات فإن معنى قليلاً يمكن إلصاقه بمفاهيم "قبيلة" و "شريحة قبلية. إنَّ التمييز والتفرد لمجموعة سياسية بالنسبة لمجموعات من النوع نفسه هو تعميم يشمل كل جماعات النوير المحلية، من أكبرها الى أصغرها.

العلاقة بين القبائل وبين شرائح قبيلة والتى تمنحها الوحدة السياسية والتميز هى علاقة تضاد. التضاد بين القبائل، أو الإتحادان الفيدرالية للقبائل، والشعوب الأجنبية، يتم التعبير عنه من جانب النوير من خلال الغارات المتعمدة والمستمرة، التى تشن بصورة متهورة وعنيفة. وبين قبائل النوير، يتمثل هذا التضاد فى حروب فعلية أو بقبول حقيقة أن النزاع لا يمكن، أو لا يجب، حسمه بأية وسائل أخرى. فى الاحتراب القبلي، على كل، يظل النساء خارج مدى القتل والاسترقاق. بين شرائح القبيلة نفسها، يعبر عن التضاد من خلال مؤسسة الضغينة. الاقتتال بين أفراد من القرية نفسها أو المعسكر ينحصر الى حد بعيد فى الاشتباك بالهراوات. العداء ونمط التعبير فى تلك العلاقات المختلفة يتفاوت فى الدرجة وفى الشكل الذى تتخذه.

تتفجر الضغائن عادة بين أقسام القبيلة نفسها وهى تكون فى المعتاد طويلة المدى. تكون تسويتها أكثر صعوبة كلما كبرت الأقسام المعنية. فى إطار القرية تسهل التسوية وفى إطار الأقسام الثلاثية للقبيلة يمكن تسوية الضغائن طال الزمن أم قصر، لكن عندما تشمل الضغائن مجموعات أكبر يمكن ألا تتم تسويتها إطلاقاً، بخاصة إذ قتل أفراد من أي من الطرفين فى معركة كبيرة.

القسم القبلي له معظم خصائص القبيلة: الاسم، والإحساس الوطني، والنسب السائد، والتميز الإقليمي، والموارد الاقتصادية وما الى ذلك. كل قسم هو قبيلة مصغرة، وتختلف الأقسام عن القبائل فقط من حيث الحجم، ومن حيث درجة التكامل، ومن حيث أنها تتحد فى حالة الحرب وتعتمد مبادئ للعدالة مشتركة.

قوة الإحساس المرتبط بالمجموعات المحلية يكون بصورة تخطيطية متناسباً بحجمها. الإحساس بالوحدة فى القبيلة أضعف من إحساس الوحدة داخل أقسامها. كلما صغرت المجموعة المحلية كلما زادت الصلات ترابطاً بين أعضائها وكلما أضحت تلك الصلات أكثر تضامناً وضرورة للإبقاء على حياة المجموعة. فى المجموعة الكبيرة، مثل القبيلة، تكون الصلات نادرة، وقصيرة الأجل، ومحدودة. أيضاً كلما صغر حجم المجموعة كلما كانت العلاقات أشد ترابطاً وتنوعاً بين أفرادها، حيث علاقات الإقامة خيطاً فى شبكة علاقات نسب أبوي، ونسب أموي، ونسب تصاهري. تصبح العلاقات بالدم والزواج أقل كلما اتسعت المجموعة.

واضح أننا عندما نتحدث عن قبيلة النوير إنما نستخدم مصطلحاً نسبياً، لأنه لا يكون دوماً سهلاً القول، وفق المعيار الذى نستخدمه، عما إذا كنا نتعامل مع قبيلة ذات شريحتين أوليتين أو مع قبيلتين. إن النظام القبلي كما يعرف فى التحليل السوسيولوجي يمكن، بالتالي، يمكن أن يقارب أي طرح بياني غير معقد. القبيلة هى تمثيل لنزعة شرائحية مميزة للبنية السياسية ككل. السبب الذى يجعلنا نتحدث عن المجموعات السياسية للنوير، وعن القبيلة على وجه الخصوص، كمجموعات نسبية ونذكر أنها لا يسهل وصفها بمصطلحات المورفولوجيا السياسية، هو أن العلاقات السياسية ذات طابع ديناميكي. إنها فى حالة تبدل دائم باتجاه أو آخر. الحركة الواضحة باتجاه التفلق. نزعة القبائل والشرائح القبلية الى التفلق والتضاد الداخلي بين أجزائها يتم توازنها بالنزعة باتجاه الانصهار، توحد المجموعات واندماجها. هذه النزعة للانصهار موروثة فى الطبيعة الشرائحية لبنية النوير السياسية، ذلك أنه بالرغم من أن كل مجموعة تنزع للانقسام الى أجزاء متضادة، فإن تلك الأجزاء تنزع للاندماج بالنسبة للمجموعات الأخرى. من ثم فإن التفلق والاندماج هما عنصران لمبدأ الشرائحية نفسه وأنه يتوجب إدراك قبيلة النوير وأقسامها بوصفها علاقة بين هذين النقيضين، مع ذلك نزعتين مكملتين. البيئة الطبيعية، ونمط الحياة، ونمط التوزيع، وبؤس الاتصالات، والاقتصاد غير المعقد وغيرها، تفسر الى حد ما واقع الانقسام السياسي، لكن النزعة باتجاه الانقسام الشرائحى يبدو موروثاً فى البنية السياسية نفسها.


الصفحة الرئيسة




أركامانى مجلة الآثار والأنثروبولوجيا الســــودانية

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق